بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمّد وآله الطاهرين.
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح الّتي حلَّت بفنائك، عليك منّي سلام الله أبداً ما بقيتُ وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتك، السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
إلى مولانا صاحب الزمان وصاحب العزاء (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء، بشهادة سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، وشهادة أهل بيته وأصحابه (عليهم السلام)، سائلين المولى أن يرزقنا شفاعة الحسين يوم الورود، ويثبّت لنا قدمَ صدقٍ عنده مع الحسين وأصحاب الحسين الّذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام).
جاء في خطبة السيّدة زينب (عليها السلام)، عندما دخلت الكوفة بعد شهادة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام): «أمّا بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل[1] والغدر والخذل! ألا فلا رقأت[2] العبرة، ولا هدأت الزفرة، إنّما مَثَلكم كمَثَل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً[3]، تتّخذون أَيْمانكم دخلاً[4] بينكم!»[5].
الكوفة تبايع الإمام الحسين (عليه السلام)
تتابعت رسائل أهل الكوفة وكتبهم إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، يعبّرون فيها عن استعدادهم لنصرته والقتال تحت رايته ضدّ يزيد بن معاوية، ويدعونه إلى المسير والقدوم إليهم؛ لإنقاذهم من ظلم بني أميّة وبطشهم، بل إنّ بعض تلك الرسائل كانت تُحَمِّلُه المسؤوليّة أمام الله والأمّة إن تأخّر عن إجابتهم؛ الأمر الّذي يُعطي انطباعاً كافياً عن الرأي العامّ في الكوفة، وأنّه يميل بنسبة كبيرة لصالح الإمام الحسين (عليه السلام).
وعلى الرغم من ذلك، لم يكتفِ الإمام (عليه السلام) برسائلهم، بل أرسل إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل؛ لكي ينظرَ حالهم، ويطّلع على أوضاعهم عن قرب؛ إذ إنّ التجربتين السابقتين مع أمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام) لا تشجّعان على الاطمئنان، وممّا جاء في رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) مع مسلم: «وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليَّ أنّه قد أجمع رأي مَلَئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قَدِمَت عليَّ به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله. فلَعَمري، ما الإمام إلّا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله، والسلام»[6].
وما إن علم أهل الكوفة بقدوم مسلم، بدؤوا يتوافدون عليه مبايعين، يظهرون الطاعة والولاية للإمام الحسين (عليه السلام)، وقد بلغ مجموع المؤيّدين والمبايعين عشرات الآلاف؛ الأمر الّذي جعل مسلماً يطمئنّ إلى جهوزيّة أهل الكوفة للنصرة والجهاد بين يدَي الإمام (عليه السلام). وبناءً عليه، أرسل إليه (عليه السلام) رسالةً يقول فيها: «أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجِّل الإقبال حين يأتيك كتابي»[7].
لقد كانت الأمور تسير بشكل سليم ومنظَّم، إلى أن دخل عبيد الله بن زياد الكوفة، وبدأت الأوضاع تنقلب رأساً على عقب، وأخذ المجتمع الكوفيّ بالانهيار والسقوط.
فما هي أهمّ الأسباب الّتي قد تدفع بالمرء إلى التخاذل والغدر والسقوط السريع؟
من أسباب السقوط
في ما يأتي نذكر سببين أساسيّين من أسباب انهيار الأفراد والمجتمعات، أسباب لها ارتباط بالبناء الإيمانيّ للمرء؛ إذ ثمّة أمور معيّنة، عندما تصيب الإنسان، تشكّل دافعاً للكثير من المفاسد والانحرافات، نذكر منها:
1. الحرص على الدنيا
يقول الإمام الحسين (عليه السلام): «إنّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت معائشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديَّانون»[8].
وقد ظهر هذا الأمر واضحاً في كثيرٍ من الشخصيّات الكوفيّة آنذاك، فهذا عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، كان شاعراً معروفاً، ومن أشراف أهل الكوفة[9]، بل من أبطالها وشجعانها، وقد التقى ابن الحرّ بقافلة الإمام الحسين (عليه السلام) في منزل بني مقاتل، فذهب الإمام (عليه السلام) إليه بنفسه، ومعه عدد من أصحابه، وبعد كلامٍ قال له: «اِعلم أنّ الله عزَّ وجلَّ مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في الأيّام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبة تغسل بها ما عليك من الذنوب، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت»[10]. فأجابه قائلاً: والله، إنّي لأعلم أنّ من شايعَك كان السعيدَ في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغنيَ عنك، ولم أُخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأُنشدكَ الله أن تحملَني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعد بالموت، ولكن فرسي هذه المُلحِقة، والله ما طلبتُ عليها شيئاً قطّ إلّا لحقتُه، ولا طلبني وأنا عليها أحد قطّ إلّا سبقتُه، فخذها، فهي لك[11].
إنّ هذا الجواب من عبيد الله بن الحرّ، يدلّ على صراع النفس مع البقاء، وتعلّقها بالدنيا، وإن كان بين يدي حجّة الله وإمام الزمان، يقول رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) بعد كلامٍ له عن تداعي الأمم على الأمّة الإسلاميّة: «... وليقذفنّ في قلوبكم الوهن!»، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال (ص): «حبّ الدنيا وكراهية الموت»[12] .
وكذا الأمر، وفي المنطقة نفسها، التقى الإمام الحسين (عليه السلام) بعمرو بن قيس المشرقيّ، وبابن عمٍّ له كان معه، فسلّما عليه، فقال لهما: «جئتما لنصرتي؟»، فقال عمرو: إنّي رجل كبير السنّ، كثير الدين، كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أن أضيّع أمانتي، وكذلك قال ابن عمّه.
إنَّ هذا المنطق يُلبس خذلان الحقّ لبوس عناوين دينيّة، كالمحافظة على الأمانة، واجتماعيّة، ككثرة العيال، تاركين أمانة الله العظيمة المتمثّلة بالإمام الحسين (عليه السلام) الذاهب مع عياله إلى المذبح الإلهيّ.
وأيضاً، ختم الإمام الحسين (عليه السلام) لقاءه معهما ناصحاً: «انطلقا، فلا تسمعا ولا تريا لي سواداً، فإنّه من سمع واعينا، أو رأى سوادنا، فلم يجبْنا، أو يُعنّا، كان حقّاً على الله عزَّ وجلّ أن يكبّه على منخريه في النار»[13].
2. الركون إلى الظالم
يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُون﴾[14].
إنّ امتحان النفوس يؤدّي إلى تمايزها، فيُعرَف الحرّ الأبيّ من الخانع الخاضع، فعندما ينتشر الظلم ويعمّ الفساد ويشتدّ الطغيان، نجد أقواماً يذوبون في آلة الظلم أعواناً وأدوات، خوفاً أو طمعاً... بينما يهرب آخرون وينأَون بأنفسهم، وثمّة قسم ثالث يثبت على المبادئ غير مكترث للضرر والأذى، ويحتسب ذلك عند الله تعالى.
والآية القرآنيّة الكريمة هذه، تتكلّم على صفة من صفات أهل الإيمان، وخلّة من خللهم، والّتي تشكّل علامةً فارقةً لهم عمّن سواهم، ألا وهي الثبات على الحقّ، وعدم الركون إلى الظالمين.
في المجتمع الكوفيّ، كان عبيد الله بن زياد معروفاً بالقسوة والشدّة، وقد أحدث قدومُه وخطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته؛ إذ خرج وأصحابه إلى المسجد، فجلسوا قبيل العتمة، وأمر عمرو بن نافع، فنادى: ألا برئت الذمّة من رجلٍ من الشرطة والعرفاء والمناكب[15] أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد، فلم يكن إلّا ساعة حتّى امتلأ المسجد من الناس، فأقام عبيد الله الصلاة، ثمّ خطب بالناس وهدّد من يجد عنده مسلماً بالقتل[16]؛ فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف على الكوفيّين وقياداتهم.
لقد مارس عبيد الله بن زياد إرهاباً وقمعاً شديدَين في الكوفة، متّبعاً أسلوب الترغيب مع ضعفاء النفوس بزيادة العطاء، واستمال رؤساء العشائر من خلال المناصب والقيادة. وفي المقابل، قمع الآخرين بالاضطهاد والسجن؛ الأمر الّذي أدّى إلى انتشار الرعب والخوف، مضافاً إلى الوعيد والتهديد بجيش الشام. ولقد كان لكلمة جيش الشام أو جند الشام أثر رهيب في روع جُلّ أهل الكوفة.
لقد زرع الاضطهاد الّذي تعرّض الناس آنذاك الخوف في قلوبه من سطوة السلطان وضعف الثقة وقلّة الاطمئنان في ما بينهم؛ الأمر الّذي أدّى بالعديد منهم إلى التخاذل وعدم الثبات والركون إلى الظالمين.
[1] الختل: الخداع.
[2] رقأت: جفّت.
[3] أنكاثاً: أنقاضاً، والنكث: النقض بعد الفتل.
[4] الدخل: الخديعة والغشّ.
[5] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص29.
[6] الطبريّ، تاريخ الطبريّ (تاريخ الأمم والملوك)، ج4، ص262.
[7] المصدر نفسه، ج4، ص281.
[8] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص245.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص354.
[10] الكوفيّ، أحمد بن أعثم، الفتوح، ج5، ص74.
[11] الدنيوريّ، ابن قتيبة، الأخبار الطوال، ص251.
[12] السيّد ابن طاووس، الملاحم والفتن، ص307.
[13] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص259.
[14] سورة هود، الآية 113.
[15] المنكب: رئيس العرفاء.
[16] راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص56.