بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء، بذكرى شهادة الإمام عليّ بن الحسين، زين العابدين (عليه السلام)، في الخامس والعشرين من شهر محرّم الحرام، عام 95 للهجرة.
جاء في الرواية عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ: لمّا أنزل الله عزّ وجلّ على نبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[1]، قلت: يا رسول الله، عَرَفنا الله ورسوله، فمَن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (عليه السلام): «هم خلفائي يا جابر، وأئمّة المسلمين (من) بعدي؛ أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثمّ عليّ بن الحسين...»[2].
غاية الرسل هداية البشريّة
خلق الله الإنسان مفطوراً على الدين، فالدين أمرٌ فطريّ كما يصرّح بذلك القرآن الكريم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾[3]. وقد بعث الله تعالى الأنبياء والرسل والأوصياء (عليهم السلام) على امتداد التاريخ لهداية البشريّة إلى الدين الحقّ، لما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة، وقد بذلوا أقصى جهودهم في سبيل إبلاغ رسالاتهم، وتحمّلوا ألوان المتاعب والتحدّيات، بل ضحّوا بأرواحهم في سبيل هذا الهدف، إلى أن خُتمت مسيرتهم بخاتمهم الرسول الأعظم محمّد (صلّى الله عليه وآله). وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك، إذ قال: «فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه؛ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ... إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّه سُبْحَانَه مُحَمَّداً، رَسُولَ اللَّه (صلّى الله عليه وآله)، لإِنْجَازِ عِدَتِه وإِتْمَامِ نُبُوَّتِه، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُه، مَشْهُورَةً سِمَاتُه كَرِيماً مِيلَادُه»[4].
الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام)
من هنا، وبعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وإكمال الدين وتمام النعمة، كان دور الأئمّة (عليهم السلام) تثبيتَ هذا الدين في قلوب الناس، والعمل على إحيائه ومواجهة أيادي التشويه التي طالته. والأئمّة (عليهم السلام) هم أولو الأمر ومفترضو الطاعة، وهم خلفاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما في الرواية عن جابر، والتي يذكرهم فيها الرسول (صلّى الله عليه وآله) جميعاً بأسمائهم.
والإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، زين العابدين (عليه السلام)، هو رابع هؤلاء الأئمّة (عليهم السلام)، وقد وُلِد (عليه السلام) في سنة ثمانٍ وثلاثين للهجرة، وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين، وعاش سبعة وخمسين سنة تقريباً، قضى ما يقارب سنتين أو أربع منها في كنف جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ ترعرع في مدرسة عمّه الحسن وأبيه الحسين (عليهما السلام).
المرحلة التي عاصرها
وقد كان دوره حسّاساً جدّاً، وعلى جانب كبير من الخطورة والدقّة؛ إذ إنّ المرحلة التي عاشها، كانت تُعَدّ من أصعب مراحل عصور الإمامة عند الشيعة، يشبّهها الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) بمرحلة الدعوة السرّيّة أو الهادئة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مكّة المكرّمة.
نعم، لقد عاصر الإمام زين العابدين (عليه السلام) وواجه مرحلة الانحطاط الفكريّ والعقائديّ والأخلاقيّ في الأمّة إبّان حكم بني أميّة، وقد سعَوا هؤلاء وعملوا على الصدّ عن الدين الحقّ بطرق شتّى، بدءاً بمعاوية، الذي أنشأ مدرسة الكذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأمر الولاة بوضع الأحاديث والروايات واختلاقها، وبثّها بين الناس في المدارس والمساجد والكتاتيب والبيوت، ليربّي جيلاً ناشئاً مشبّعاً بتلك التعاليم المزوّرة لصالح الأمويّين، والتي تعارض التعاليم الإسلاميّة الأصيلة.
ويشير الإمام زين العابدين في حديثٍ إلى هذه المرحلة، مبيّناً ما كانت عليه الأمّة من التردّي والانحطاط، فيقول (عليه السلام): «ما ندري كيف نصنع بالناس؛ إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ضحكوا، وإن سكتنا لم يَسَعْنا»[5]، فهم لا يكتفون برفض ما جاء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بل يسخرون ويستهزئون بذلك!
المواجهة والتصدّي
لقد تصدّى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ونهض مجاهداً في سبيل حفظ الإسلام الأصيل، فعمل طيلة أربعٍ وثلاثين سنة على أداء دور مهمّ في هذا الميدان الشائك، فكان معلِّماً للحقّ، يبثّ الفضيلة، ويدعو إلى الإسلام المحمّديّ الأصيل، الذي توارثه عن آبائه، والموصول بالرسول (صلّى الله عليه وآله) بأوثق السبل، وأقرب الطرق. وأصبح سدّاً منيعاً في مواجهة كلّ انحراف وتزوير كان يبديه علماء السوء من وعّاظ السلاطين.
لقد واجه الإمام زين العابدين (عليه السلام) المؤامرة الأمويّة على الدين الإسلاميّ، من خلال جبهات عدّة:
1. ربط الناس بكتاب الله والأحاديث الصحيحة
إنّ أهمّ مصادر الفكر الإسلاميّ القرآن والسنّة، وقد عمل الإمام (عليه السلام) على تعزيز هذين المصدرين في نفوس المسلمين، بعد أن قام الأمويّون بمسخ مفاهيمهما والمنع من تدوين سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ أمّا القرآن فقال فيه: «عليك بالقرآن، فإنّ الله خلق الجنّة بيده، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن، فمن قرأ القرآن، قال له: اقرأ وارقَ، ومن دخل منهم الجنّة، لم يكن أحد في الجنّة أعلى درجة منه، ما خلا النبيّين والصدّيقين»[6]. وقال (عليه السلام) أيضاً: «لو مات مَن بين المشرق والمغرب، لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي»[7].
2. ربط الناس بالأئمّة (عليهم السلام)
سعى الأمويّون إلى إبعاد الناس عن أهل البيت (عليهم السلام) بشتّى الأساليب، من الإرهاب إلى الترغيب، حتّى وصل الأمر بمعاوية إلى أن يأمر بلعن أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر، ومعاقبة من يتسمّى بأسماء أهل البيت (عليهم السلام). وقد واجه الإمام زين العابدين (عليه السلام) ذلك بتعريف الناس مقامَ أهل البيت (عليهم السلام)، عن أبي خالد الكابليّ، قال: دخلت على عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وهو جالس في محرابه، فجلست حتّى انثنى، وأقبل عليَّ بوجهه يمسح يده على لحيته، فقلت: يا مولاي، أخبرني، كم يكون الأئمّة بعدك؟ قال: «ثمانية». قلت: وكيف ذاك؟ قال: «لأنّ الأئمّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اثنا عشر، عدد الأسباط؛ ثلاثة من الماضين، وأنا الرابع، وثمانٍ من ولدي أئمّة أبرار، مَن أحبّنا وعمل بأمرنا، كان معنا في السنام الأعلى، ومَن أبغضنا وردّنا أو ردّ واحداً منّا، فهو كافر بالله وبآياته»[8].
وقال (عليه السلام): «نحن أئمّة المسلمين، وحُجَج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرّ المحجّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء... ولولا ما في الأرض منّا لساخَت بأهلها، ولم تَخْلُ الأرض منذ خلقَ اللهُ آدمَ من حُجّةٍ لله فيها، ظاهرٍ مشهورٍ أو غائبٍ مستورٍ، ولا تخلو، إلى أن تقوم الساعة، من حجّة لله فيها، ولولا ذلك لم يُعبَد الله»[9].
3. تصحيح المفاهيم
لقد روجّ الأمويّون لمفاهيم خاطئة، ألبسوها لبوس الدين، منها عقيدة الجبر.
لقد كان من أخطر ما روّجوه بين الأمّة، وأكّدوا إشاعته فكرة الجبر الإلهيّ؛ بهدف التمكّن من السلطة التامّة على مصير الناس، والهيمنة على الأفكار بعد الأجسام؛ فإنّ الأمة إذا اعتقدت بالجبر، فذلك يعني أنّ كلّ ما يجري عليها هو من الله وبإذنه، فما يقوم به الخليفة من فساد وظلم وجور وقتل ونهب وغصب، هو من الله. وبذلك، تستكين الأمّة للظالم ولتعدّياته. وأوّل مَن روّج لذلك معاوية، إذ كان أوّل من أظهر هذا المعتقد ليجعله عذراً له في ما يأتيه ويفعله.
ولمّا أُدخل عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) على يزيد، قال له: يا عليّ، الحمد لله الذي قتل أباك! قال عليّ (عليه السلام): «قتلَ أبي الناسُ». قال يزيد: الحمد لله الذي قتله فكفانيه! قال عليّ (عليه السلام): «على مَن قتل أبي لعنة الله، أفتراني لعنت الله عزّ وجلّ؟!»[10].
ختاماً، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): إنّ هذا الإنسان العظيم قد قضى كلّ حياته وسعيه في طريق الهدف المقدّس، وهو إقامة حكومة الله على الأرض وتطبيق الإسلام، وقد استفاد من أنضج وأفضل الوسائل، وتقدّم بالقافلة الإسلاميّة، الّتي كانت بعد واقعة عاشوراء في تشرذمٍ وتفرّق مهول، وأنجز مهمّته العظمى ومسؤوليّته الأصيلة، والتي قام بها كلّ أئمّتنا وجميع الأنبياء والصالحين، مراعياً أصول السياسة والشجاعة والدقّة في الأعمال. وبعد 35 سنة من الجهاد المستمرّ، الذي لم يعرف الراحة أبداً، رحل عن الدنيا كريماً مرفوع الرأس موكلاً حمل ثقل الرسالة من بعده إلى الإمام الباقر (عليه السلام)[11].
[1] سورة النساء، الآية 59.
[2] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص253.
[3] سورة الروم، الآية 30.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص44، الخطبة 1.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص234.
[6] القمّيّ، تفسير القمّيّ، ج2، ص259.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص602.
[8] الخزّاز القمّيّ، كفاية الأثر، ص236.
[9] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص253.
[10] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص38.
[11] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص264.