بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمّد وآله الطاهرين.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾[1].
عزم النبيّ إبراهيم الخليل (عليه السلام)، على ذبح ولده وثمرة فؤاده؛ وذلك بأمرٍ من الله تعالى، تبلّغ به في منامه، بأن يذبح ولده، فلم يسأل، ولم يعترض، بل توجّه في الحال إلى ولده، قائلاً: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، فأجابه النبيّ إسماعيل (عليه السلام) ملبّياً أمر الله تعالى: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.
نعم، لم يكن من النبيّ إبراهيم (عليه السلام) إلّا امتثال التكليف الإلهيّ، والاستجابة السريعة لتلبية أمر الله تعالى، وما كان من ولده إسماعيل (عليه السلام) إلّا الاستجابة الفوريّة الحاسمة لأمر الله ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾؛ إذ إنّ الأمر ليس أمرك، فأنت الحنون الشفيق، وأنت الرحيم الرقيق، ولكنّ الله أرحم الراحمين، وأشفق منك وأكرم، وبما أنّه تعالى قد أمر نبيّه وخليله بذبح ولده، فهي الرحمة بعينها.
من أجل ذلك، فإنّ على المسلم أن ينظر إلى هذا الحدث بعينٍ ملؤها العِبرة والاتّعاظ، وبعقلٍ ملؤه التدبّر والتفكّر.
وإنّ الأضحية هنا رمز، والرمز يحمل في طيّاته الكثير من المعاني، فهي تمثّل لإبراهيم (عليه السلام) ذبح أغلى ما يملك ويحبّ من أجل الله تعالى، وذلك ليخرج من قلبه كلّ شهوة وكلّ حبّ سوى الله تعالى، فهل نفطن إلى هذا الدرس، ونضحّي بشهواتنا وكلّ ما نحبّ إذا تعارض أيٌّ من ذلك مع مراد الله تعالى؟
أنواع التضحية وأشكالها
ويتّسع لفظ التضحية لكثيرٍ من الأنواع والأشكال؛ فالتضحية تكون بالمال والوقت والجهد، بل بالنفس والأهل والأحبّة في سبيل الله تعالى، وإعلاءً لكلمته، ونشراً للدعوة، وإقامةً للدين، وحفظاً له.
التضحية بالمال
إنّ من أنواع التضحية أن يقدّم المرء مالَه في سبيل الله تعالى، سواء أكان على سبيل الواجب المقدَّر شرعاً، من الخمس والزكاة، وما فرضه الله للفقراء والمساكين... أو في صورة الصدقات المستحبّة التطوعيّة التي يُخرجها المسلم طائعاً مختاراً، طمعاً في ما عند الله تعالى من الثواب الجزيل، يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[2].
وقد بيّن سبحانه أنّ الذي يُنفق في سبيله، إنّما يُقرِض الله تعالى قرضاً حسناً، فقال: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[3].
التضحية بالنفس
وإنّ أعلى أنواع التضحية وأرقاها هي التضحية بالنفس، إذ فيها يجود المسلم بنفسه لله سبحانه وتعالى، ويقدّم روحه رخيصةً في سبيله، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[4].
ولا يوجد معروف وبرّ فوق هذه التضحية، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فوق كلّ ذي برّ برّ، حتّى يُقتَل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتِل في سبيل الله، فليس فوقه برّ»[5].
التضحية بالأهل والأحبّة
وإنّ من مصاديق التضحية، أن يقدّم المرء أهله وأحبّته في سبيل الله تعالى، وهذا ما حدث مع الأنبياء (عليهم السلام)، فقد هاجر إبراهيم الخليل (عليه السلام) بإسماعيل وأمّه هاجر، وهو رضيع ضعيف لا يقوى على شيء، ووضعهما في صحراء قاحلة، لا زرع فيها ولا ضرع، ولا أنيس فيها ولا جليس.
وقد هاجر النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بأهله وصحبه، من مكّة المكرّمة، وهي أحبّ بلاد الله إليهم، هاجروا طاعةً لله تعالى، وقطعوا علاقاتهم بأهلهم وذويهم وأبنائهم وأحبابهم، استجابةً لنداء الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[6].
وقد بشّر الله تعالى المهاجرين والمجاهدين في سبيل، بل والذين آوَوا ونصروا، بأنّهم هم المؤمنون حقّاً، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[7].
وهكذا كانت تضحيات الأئمّة (عليهم السلام)، ولا سيّما الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء؛ إذ قدّم أهله وعياله وأحبّته وأصحابه شهداء في سبيل الله تعالى، ودفاعاً عن دينه، وهو القائل لأمّ سلمة (رضوان الله عليها): «يا أمّاه، قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً، ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون، فلا يجدون ناصراً ولا معيناً»[8].
وهذا هو حال من تبعهم من المسلمين إلى يومنا هذا، فقد أُقيم المجتمع المسلم الأوّل على أكتاف رجال ضحَّوا بكلّ أنواع التضحية، من إنفاقٍ للمال، ومفارقةٍ للأهل والولد، وبذلٍ للوقت والجهد، إلى التضحية بالأرواح والأنفس، ذلك كلّه في سبيل الله تعالى، وقد تبعهم بإحسان رجالٌ واصلوا المسيرة من التابعين وتابعيهم، وإلى يومنا هذا، بل وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، فلن تخلو الأرض يوماً من هذه الفئة المخلصة، ليكونوا جند الله في أرضه، وتكون بهم المبادئ والقيم والعقائد واقعاً ومساراً ومنهجاً على هذه المعمورة.
وإنّ ما نشهده اليوم من تضحيات عظيمة وجسيمة، في خطّ المقاومة الإسلاميّة، دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، تضحيات بالقادة العظام، ولا سيّما سماحة الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) ومَن معه من القادة الجهاديّين، ومن المجاهدين، ومن عموم الناس الحاضنين لهذه المقاومة، إنّما هو امتدادٌ لهذا النهج والفداء الحسينيّ في سبيل الإسلام المحمّديّ الأصيل، وهو من أبرز مصاديق الانتصارٌ لله تعالى ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[9].
[1] سورة الصافّات، الآية 102.
[2] سورة البقرة، الآيتان 261 – 262.
[3] سورة البقرة، الآية 245.
[4] سورة التوبة، الآية 111.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص348.
[6] سورة التوبة، الآيتان 23 – 24.
[7] سورة الأنفال، الآية 74.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص331.
[9] سورة الحجّ، الآية 40.