الليلة السابعة: مجلس أبي الفضل العبّاس عليه السلام

وَمَا زَالَ فِي حَرْبِ الطُّغَاةِ مُجَاهِداً
وَقَدْ رَشَقُوهُ بِالنِّبالِ وَخَرَّقُوا
فَنَادَى حُسَيْناً وَالدُّمُوعُ هَوَامِلٌ
عَلَيْكَ سَلامُ اللهِ يَا بَنْ مُحَمَّدٍ
فَلَمَّا رَآهُ السِّبْطُ مُلْقًى عَلَى الثَّرَى
فَجَاءَ إِلِيهِ وَالفُؤادُ مُقَرَّحٌ
أَخِي كُنْتَ عَوْنِي فِي الأُمُورِ جَمِيعِهَا
يَعُزُّ عَلَيْنا أَنْ نَرَاكَ عَلَى الثَّرَى
عَلَيْكَ مِنَ الرَحْمَنِ أَلْفُ تَحِيَّةٍ
فَأَبْشِرْ بِجَنَّاتٍ مِنَ اللهِ فِي غَدٍ

إِلَى أَنْ هَوَى فَوْقَ الصَّعِيدِ مُجَدَّلا
لَهُ قَرْبَةَ المَاءِ الَّتِي كَانَ قَدْ مَلَا
أَيَا ابْنَ أَبِي قَدْ خَابَ مَا كُنْتُ آمِلا
عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي يَا أَخِي نَزَلَ البَلا
يُعَالِجُ كَرْبَ المَوْتِ وَالدَّمْعَ أَهْمَلا
وَنَادَى بِقَلْبٍ بِالهُمُومِ قَدْ امْتَلا
أَبَا الفَضَلِ يَا مَنْ كَانَ لِلنَفْسِ بَاذِلا
طَرِيحاً وَمِنْكَ الوَجْهُ أَضْحَى مُرَمَّلا
فَقَدْرُكَ عِنْدِي يَا أَخِي الآنَ قَدْ عَلا
وَبِالحُورِ وَالوِلْدَانِ وَالفَوْزِ وَالعُلَى


37


(شعبي)
صاح أبو فاضل بصوته وردده              أدركني يا خوي روحي ليك الفدا
التفت صوب الخيم والمدمع بكت           وصاح يا عِضيدي ترى عنَّك رحت
قطعوا كفّيني وعالغبرة طحت               وجاه مسرع من سمع منَّه الندا
صاح يا عباس يالحزت الفخر               خان بيه وغدر يا خوي الدهر
وهدّ قوتي وانكسر مني الظهر               وابد مثل مصابك عليَّ ما سِرا

المجلس:

يقول الراوي: لمّا لم يبق مع الحسين عليه السلام إلّا أخوه العبّاس عليه السلام جاء إلى الحسين عليه السلام يطلب منه الإذن بالقتال قائلاً: هل من رخصة؟ فبكى الحسين عليه السلام بكاء شديداً ثمّ قال: يا أخي أنت صاحب لوائي، فقال العبّاس: قد ضاق صدري وسئمت الحياة وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين. فقال الحسين عليه السلام: إذن أطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.

يقول الراوي: فذهب العبّاس عليه السلام إلى القوم، وعظهم وحذّرهم غضب الجبّار، فلم ينفع، فنادى بصوت عال: يا عمر بن سعد، هذا الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتلتم أصحابه وأهل بيته، وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء قد أحرق الظمأ قلوبهم. فأثّر كلامه في العسكر حتّى بكى بعضهم. ولكنَّ شمراً صاح بأعلى صوته: يا ابن أبي تراب لو كان وجه


38


الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما أسقيناكم منه قطرة.

فرجع العبّاس إلى أخيه يخبره جواب القوم، فسمع الأطفال يتصارخون وينادون: العطش العطش، ثمّ إنّه وقف بباب الخيمة ليأخذ القربة وينزل إلى ساحة الميدان والأطفال تصرخ من العطش، تعلّقت به أخته زينب عليها السلام قالت بصوت حزين ضعيف: أخي أبا الفضل الوداع الوداع يا نور عيني...

يا عباس ريض لي على هونك        شعرهم الأرجاس يندهونك
وبأمرة الجيش يواعدونك              لمن شفتهم يحاكونك
لوني تغيَّر وحق لونك                 أخاف من أخيك يفردونك

***
يقلها يا زينب تظنين أنا أمشي           وخلِّي عضيدي الحسين
وروحي لو تفداه هالحسين               تروح بس يبقى حبيبي ونور العين
امشي بوجودي لا تخافين                أنا أدافع عنكم بالشمال واليمين

ركب جواده ومعه اللواء وأخذ القربة وقصد الفرات، فأحاط به أربعة آلاف فارس ممّن كانوا موكلين بالفرات لمنع الحسين وأصحابه منه، ورموه بالنبال فكشفهم وقتل منهم جماعة، حتّى وصل إلى المشرعة ركز لواءه ونزل إلى الماء، فلمَّا أحسَّ ببرد الماء وقد كظّه العطش، اغترف غرفة ليشرب تذكّر عطش الحسين عليه السلام فرمى الماء من يده، وقال: لا والله لا أشرب الماء وأخي الحسين عليه السلام


39


عطشان. ثمّ جعل يقول:
يَا نَفْسُ مِنْ بَعْدِ الحُسَيْنِ هُونِي      وَبَعْدَهُ لَا كُنْتِ أَنْ تَكُونِي
هَذَا حُسَيْنٌ وَارِدُ المَنُونِ             وَتَشْرَبِينَ بَارِدَ المَعِينِ

(نصاري)

غرف غرفة بيمينه وراد يشرب              وقلبه من العطش نيران يلهب
ذكر كبدة عضيده والدمع صب                ذبَّ وعلي قال الماي يحرم
اشلون اشرب وخوي حسين عطشان        وسكنه والحرم وأطفال رضعان
وظن قلب العليل التهب نيران                 يريت الماي بعده لاحله ومر

ثمّ ملأ القربة وحملها على كتفه وخرج من المشرعة فاستقبلته جموع الأعداء، وصاح ابن سعد: اقطعوا عليه الطريق. ولمّا رأى ذلك منهم حمل عليهم بسيفه وهو يقول:
إِنِّي أَنَا العَبَّاسُ أَغْدُو بِالسِّقا                وَلَا أَخَافُ المَوْتَ يَوْمَ المُلْتَقَى
نَفْسِي لِابْنِ المُصْطَفَى الطُّهْرِ وَقَا         حَتَّى أُوَارَى فِي المَصَالِيتِ لُقَى

فرموه بالنّبال من كلّ جانب حتّى صار درعه كالقنفذ من كثرة السهام، فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن الطفيل، فضربه على يمينه فقطعها فأخذ السيف بشماله وهو يقول:
وَاللهِ إِنْ قَطَعْتُمُ يَمِينِي            إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِيِني
وَعَنْ إِمَامٍ صَادِقِ اليَقِينِ         نَجْلِ النَّبِيِّ الطَّاهِرِ الأَمِينِ

فقاتل القوم حتّى ضعف عن القتال، وقد أعياه نزف الدم فكمن


40


له حكيم بن الطفيل فضربه بالسيف على شماله فقطعها من الزند، فأخذ يقول:
يَا نَفْسُ لَا تَخْشَيْ مِنَ الكُفَّارِ         وَأَبْشِرِي بِرَحْمَةِ الجَبَّارِ
مَعَ النَّبِيِّ المُصْطَفَى المُخْتَارِ        قَدْ قَطَعُوا بِبَغْيِهِم يَسَارَي
                      فَأَصْلِهِمْ يَا رَبِّ حَرَّ النَّارِ

وعند ذلك وقع السيف من يده وأخذ القربة بأسنانه، ولم يكن للعبّاس همّ إلّا إيصالها إلى المخيّم إلى الأطفال، فقطعوا عليه طريقه وأتته السهام كالمطر من كلّ جانب، فأصاب القربةَ سهمٌ فأريق ماؤها فوقف العباس متحيِّراً (كيف يذهب إلى المخيّم بلا قربة، بلا كفّين، جسمه كالقنفذ من كثرة السهام) وبينما هو كذلك جاءه سهم وقع في صدره وسهم آخر أصاب عينه اليمنى فأطفأها، وجاء إليه رجل من بني تميم فضربه بعمود من حديد على رأسه فخرَّ إلى الأرض صريعاً، ونادى بأعلى صوته: عليك منّي السلام أبا عبد الله أدركني يا أخي...

يعباس من الخيم للعلقمي حسين         يصيح بصوت يعضيدي وقعت روين
بعد ما شوف دربي يا خوه العين        يخويه الكون كله بعيني أظلم
يخويه امنين اجتني هل رميه             يخويه اسا وقع بيتي عليه
يخويه اسا عدوي شمت بيه              وشوفنك يبو فاضل مطبَّر

قال الراوي: فانحنى عليه الحسين عليه السلام ليحمله ففتح العبّاس عينه فرأى أخاه الحسين عليه السلام فقال له: إلى أين تريد يا أخي؟


41


فقال إلى الخيمة، فقال: أخي بحقّ جدّك رسول الله صلىى الله عليه وآله وسلم عليك، أن لا تحملني دعني في مكاني هذا، فقال عليه السلام: ولماذا؟ قال لحالتين أمّا الأولى: فإنّي وعدت ابنتك سكينة بالماء ولم آتها به فإنّي مستح منها، وأمّا الثانية فإنّه قد نزل بي الموت الذي لا بدّ منه. فقال الحسين عليه السلام جزيت عن أخيك خيراً.

(نصاري)

يخويه حسين خليني بمكاني       يقله ليش يا زهرة زماني
يقله واعدت سكنة تراني          بماي ومستحي منها من اسدر

آجركم الله وبينما الحسين عليه السلام عند أخيه أبي الفضل إذ شهق شهقة وفارقت روحه الدنيا صاح الحسين: واأخاه واعبّاساه.

(فائزي)

ظهري انكسر خويه وانته اللي كسرته          ماني أخوك شلون أخوك اليوم عفته
انته اللتجيب الماي وانته الكافل انته             تخلي العقيلة بلا ولي بين آل أميه

أقول: هذه مصيبة عظيمة على قلب مولانا الإمام الحسين عليه السلام ولكن الأشدّ ألماً كيف يخبر أخته العقيلة باستشهاد أبي الفضل عليه السلام؟ يقول الراوي: لمّا رجع الحسين عليه السلام من مصرع أخيه رجع وهو يكفكف دموعه بكمّه، فتلقته أخته الحوراء زينب عليها السلام وقالت: أبا عبد الله أراك رجعت وحيداً فريداً؟ أين ابن والدي؟ أين أخي


42


العبّاس؟ قال: عظم الله لك الأجر بأخيك أبي الفضل، وقيل ما كلّمها بشيء، بل راح إلى خيمة العبّاس، فأسقط عمودها فارتفعت الأصوات بالنحيب والبكاء...

وأرادت العقيلة أن تذهب إلى مصرع العبّاس ولكن الإمام عليه السلام منعها قائلاً: لا تشمتي بنا الأعداء. ولكنّها لم تخرج إلى كفيلها إلّا عندما جنّ ليل الحادي عشر أقبلت إليه تتعثّر بأذيالها حتّى وصلت إليه ورأته بتلك الحالة الفظيعة وكأنّي بها:
(الفراق)
يبوفاضل        هذي تاليها الوصية
يبو فاضل       ترضى أختك أجنبية
يبوفاضل        حرمى واتستر بايديه
يبو فاضل      هذي تاليها الأخوة
يبوفاضل       تدري بالشمر اشسوى
يبوفاضل       سوطه بمتوني تلوَّى
يبوفاضل       ودي تعطيني الرايه
يبوفاضل       أرد أساويها عبايه
يبوفاضل       تدري مو احنا سبايا

عَبَّاسُ تَسْمَعُ زَيْنَباً تَدْعُوكَ         مَنْ لِي يَا حِمَايَ إِذَا العِدا نَهَرُونِي


43


     
السابق الصفحة الرئيسة التالي