الشيخ صالح الكواز هو أبو المهدي بن الحاج حمزة عربي المحتد يرجع في الاصل الى قبيلة (الخضيرات) احدى عشائر شمر المعروفة في نجد والعراق, ولد سنة 1233 وتوفي في شوال سنة 1290 فيكون عمره 57 سنة ودفن في النجف الاشرف. كان على جانب عظيم من الفضل والتضلع في علمي النحو والادب بخلاف أخيه الاصغر الشيخ حمادي الكواز الذي كان أميا والذي كان ينظم على الذوق والسليقة, اما الشيخ صالح فمن عدة نواحي كان يمتاز على أقرانه وأدباء عصره، كان خفيف شعر العارضين أسمر اللون, يتعاطى مهنة أبيه وهي بيع (الكيزان) والجرار والاواني الخزفية ولذلك اشتهر بالكواز, ومع رقة حاله وضعف ذات يده يترفع عن التكسب بشعره, روى الخطيب اليعقوبي رحمه الله قال: طلب أحد ذوي الجاه من الشيخ صالح الكواز أن ينظم له أبياتا في رثاء أبيه ويؤرخ فيها عام وفاته لتنقش على صخرة في مقبرة (مشهد الشمس) وبذل له على ذلك بتوسط أحد أصدقائه ما يقارب الاربعين ليرة عثمانية فامتنع لعزة نفسه.
وكان يجمع بين الرقة والظرافة والنسك والورع والتقى والصلاح ويأتم به الناس في الصلاة في أحد مساجد الجباويين بالقرب من مرقد أبي الفضائل ابن طاوس وللناس أتم وثوق في الائتمام به, والشيخ صالح هو الشاعر الوحيد الذي يكثر من التصريح والتلميح الى الحوادث التاريخية في شعره حيث كان على جانب عظيم من الفضل والتضلع في التاريخ والادب, وقد درس النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان على خاله الشيخ علي العذاري والشيخ حسن الفلوجي والسيد مهدي السيد داود, وقد تخرج في الفقه وعلوم الدين على العلامة السيد مهدي القزويني.
رثاه جملة من فطاحل الشعر والادب وفي مقدمتهم الشاعر الشهير السيد حيدر الحلي بقصيدة مثبتة في ديوانه المطبوع وأولها
كل يوم يسومني الدهر ثكلا | ويريني الخطوب شكلا فشكلا |
شاعرية الكواز
سئل الحاج جواد بذقت ـ أبرع شعراء كربلاء المشهورين في عصر الكواز ـ عن أشعر من رثى الامام الحسين عليه السلام, فقال أشعرهم من شبه الحسين بنبيين من أولى العزم في بيت واحد وهو الشيخ صالح الكواز بقوله
كأن جسمك موسى مذ هوى | صعقا وأن رأسك روح الله مذ رفعا |
ان المحافل الحسينية ترتاح وتطرب لشعر الكواز وله المكانة المرموقة في الاوساط الادبية والدينية لما أودع فيه من الفن والصناعة والوقائع التاريخية الذي قل من جاراه فيها من أدباء عصره مضافا الى ما فيه من رصانة التركيب والنظم العجيب والرقة والسلاسة والدقة في المعاني والابداع في التصوير واليك بعض الشواهد على ذلك من قصائده المتفرقة:
لي حزن يعقوب لا ينفك ذا لهب | لصرع نصب عيني لا الدم الكذب |
وتحتوي هذه القصيدة على 40 بيتا ولم يخل بيت واحد منها من اشارة الى قصة تاريخية أو نكتة بديعية أو صناعة بيانية أو أدبية.
من رثائه للامام الحسين عليه السلام
بـاسم الـحسين دعـا نعاء | نعاء فـنعى الـحياة لـسائر الاحـياء |
وقضى الهلاك على النفوس | وانما بـقيت ليبقى الحزن في الاحشاء |
يـوم بـه الاحزان مازجت الحشا | مـثل امـتزاج الـماء بالصهباء |
لـم أنـس اذ ترك المدينة واردا | لا مـاء مـدين بـل نجيع دماء |
قـد كـان موسى والمنية اذ دنت | جـاءته مـاشية عـلى استحياء |
ولــه تـجلى الله جـل جـلاله فـي | طور وادي الطف لا سيناء |
وهـناك خـر وكل عضو قد غدا | مـنـه الـكليم مـكلم الاحـشاء |
يـا أيـها الـنبأ العظيم اليك | في ابـنـاك مـنى أعـظم الانـباء |
ان الـلـذين تـسـرعا يـقيانك | الارمـاح فـي صـفين بالهيجاء |
فـأخذت فـي عـضديهما تثنيهما | عـما أمـامك مـن عـظيم بلاء |
ذا قـاذف كـبدأ لـه قـطعا | وذا فـي كـربلاء مـقطع الاعضاء |
مـلقى على وجه الصعيد مجردا | فـي فـتية بيض الوجوه وضاء |
تـلك الـوجوه الـمشرقات كأنها | الاقـمار تـسبح فـي غدير دماء |
رقـدوا وما مرت بهم سنة الكرى | وغـفت جـفونهم بـلا اغـفاء |
مـتوسدين مـن الصعيد صخوره | مـتـمهدين حـرارة الـرمضاء |
مـدثرين بـكربلا سـلب الـقنا | مـزمـلين عـلى الـربا بـدماء |
خـضبوا وماشابوا وكان خضابهم | بــدم مــن الاوداج لا الـحنا |
اطـفالهم بـلغوا الـحلوم بقربهم | شـوقا الـى الهيجاء لا الحسناء |
ومـغسلين ولا مـياه لـهم سوى | عـبرات ثـكلى حـرة الاحشاء |
أصـواتها بـحت وهـن نـوائح | يـنـدبن قـتـلاهن بـالأيـماء |
أنـى التفتن رأين ما يدمي الحشا | مـن نـهب أبـيات وسلب رداء |
تـشكو الـهوان لـندبها وكـأنه | مـغض ومـا فـيه من الاغضاء |
وتـقول عـاتبة عليه وما عسى | يـجدي عـتاب مـوزع الاشلاء |
قـد كـنت لـلبعداء أقرب منجد | والـيوم أبـعدهم عـن الـقرباء |
أدعـوك مـن كثب فلم أجد الدعا | الا كـمـا نـاديـت لـلـمتنائي |
قـد كنت في الحرم المنيع خبيئة | فـاليوم نـقع الـيعملات خبائي |
أسـبى ومثلك من يحوط سرادقى | هـذا لـعمري أعـظم الـبرحاء |
مـاذا أقـول اذا الـتقيت بشامت | انـي سـبيت واخـوتي بأزائي |
حـكم المنون عليكم أن تعرضوا | عـني وان طـرق الهوان فنائي |
هـذي يـتاماكم تـلوذ بـبعضها | ولـكـم نـساء تـلتجي بـنساء |
مـا كنت أحسب ان يهون عليكم | ذلـي وتـسييري الـى الاعـداء |
عـجبا لـقلبي وهـو يألف حبكم | لـم لا يـذوب بـحرقة الارزاء |
وعجبت من عيني وقد نظرت | الى مـاء الـفرات ولم تسل في الماء |
وألـوم نـفسي فـي امتداد بقائها | اذ لـيس تـفنى قـبل يوم فنائي |
ما عذر من ذكر الطفوف | فلم يمت حـزنا بـذكر الـطاء قبل الفناء |
ومن أخرى في شهداء كربلاء
تـأسـى بـهم آل الـزبير فـذللت | لمصعب في الهيجا ظهور المصاعب |
ولـولاهم آل الـمهلب لـم تـمت | لـدى واسـط موت الابي المحارب |
وزيـد وقـد كـان الابـاء سـجية | لآبـائـه الـغر الـكرام الاطـائب |
وقوله من مرثية في أهل البيت عليهم السلام
وقفوا معي حتى اذا ما استيأسوا | (خلصوا نجيا) بعد ما تركوني |
فكأن يوسف في الـديار محكم | وكـأنـني بـصراعه اتهموني |
وفيها يقول
نبذتهم الهيجاء فوق تلاعها | كالنون ينبذ في العرا (ذاالنون) |
فتخال كلا ثم يونس فوقـه | شجـر الـقنا بدلا عن اليقطين |
ومن حكمياته
ولربما فرح الفتى في نيله | أربا خلعن عليه ثوب حزين |
واذا أذل الله قوما أبصروا | طرق الهداية ضلة في الدين |
وحين نظم هذه العصماء في أهل البيت عليهم السلام ومطلعها
هل بعد موقفنا على يبرين | أحيا بطرف بالدموع ضنين |
جاراه جماعة من فحول عصره وزنا وقافية منهم الشيخ محسن أبوالحب بقصيدة أولها
ان كنت مشفقة علي دعيني | ما زال لومك بالهوى يغريني |
ومنهم الشيخ سالم الطريحي بقصيدته التي يرثي بها الحسين عليه السلام وأولها
أبدار وجرة أم على جيرون | عقلوا خفاف ركائب وضعون |
وقالوا ان الكواز دون شعره وشعر أخيه الشيخ حمادي في مجلد واحد وأسماه (الفرقدان) وأخيرا جمع الخطيب الاديب الشيخ محمد علي اليعقوبي أكثر شعره وحققه ونشره وذلك في سنة 1384 هـ.
من رثائه للامام الحسين عليه السلام ويذكر في آخرها الشهيد زيد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام:
غـابات أسـد أم بـروج كواكب أم | الـطف فيه استشهدت آل غالب |
ونـشر الخزامى سار تحمله الصبا | أم الطيب من مثوى الكرام الاطائب |
وقـفت بـها رهن الحوادث أنحني | من الوجد حتى خلتني قوس حاجب |
تـمثلت فـي أكـنافها ركب هاشم | تـهاوت الـيه فيه خوص الركائب |
أتـوها وكل الارض ثغر فلم يكن | لـهم مـلجأ الا حـدود القواضب |
وسـمرا اذا ما زعزعوها حسبتها | من اللين أعطاف الحسان الكواعب |
وان أرسـلوها فـي الدروع رأيتها | أشـد نـفوذا من أخي الرمل واقب |
هـم الـقوم تـؤم لـلعلاء وليدهم | ونـاشئهم في المجد أصدق صاحب |
اذا هـو غـنته الـمراضع بالثنا | صـغى آنـسا بالمدح لا بالمحالب |
ومـن قـبل تـلقين الاذان يـهزه | نـداء صـريخ أو صهيل سلاهب |
بـنفسي هـم من مستميتين كسروا | جفون المواضي في وجوه الكتائب |
وصالوا على الاعداء أسد أضواريا | بـعوج المواضي لا بعوج المخالب |
اذا نـكرتهم فـي الـغبار عجاجة | فـقد عرفتهم قضبهم في المضارب |
بـها ليل لم يبعث لها العتب باعث | اذا قـرط الـكسلان قول المعاتب |
فـما بـالهم صرعى ومن فتياتهم | بـهم قد أحاط العتب من كل جانب |
تـعـاتبهم وهـي الـعلمية انـهم | بـريئون مـما يقتضي قول عاتب |
ومذهولة في الخطب حتى عن البكا | فـتدعو بطرف جامد الدمع ناضب |
تـلبي بـنو عبس بن غطفان فتية | لهم قتلت صبرا بأيدي الاجانب1 |
وصـبيتكم قتلى وأسرى دعت بكم | فـما وجـدت منكم لها من مجاوب |
ومـا ذاك مـما يـرتضيه حفاظكم | قـديما ولـم يعهد لكم في التجارب |
عـذرتـكم لــم تـهمكم بـجفوة | ولا سـاورتكم غـفلة في النوائب |
فـليت شـعري مـن الـعباس أرقه | أنـينه كـيف لـو أصـواتهم سـمعا |
وهـادر الـدم مـن هـبار ساعة اذ | بـالرمح هودج من تنمى له قرعا2 |
مـا كـان يـفعل مذ شيلت هوادجها قسرا | على كل صعب في السرى ضلعا |
بـنـي عـلي وانـتم لـلنجا سـببي | فـي يـوم لا سـبب الا وقـد قطعا |
ويـوم لا نـسب يـبقى سـوى نسب | لـجـدكم وأبـيـكم راح مـرتـجعا |
لـوما أنـهنه وجـدي فـي مـحبتكم | قـذفت قـلبي لـما قـد نـالني قطعا |
فـانها الـنعمة العظمى التي رجحت | وزنـا فـلو وزنـت بـالدهر لارتفعا |
مـن حـاز مـن نعم الباري ولا يتكم | فـلا يـبالي بـشيء ضـر أو نـفعا |
مـن لـي بنفس على التقوى موطنة | لا تـحفلن بـدهر ضـاق أو وسـعا |
وقال
أمـا فـي بـياض الشيب حلم لأحمق | بـه يـتلافى مـن لـياليه مـا بقي |
ومـا بـالأولى بـانوا نـذير لسامع | فـان مـناديهم يـنادي الـحق الحق |
وان امـرءا سـرن الـليالي بـظعنه | لاسـرع مـمن سـار من فوق أينق |
وسـيان عند الموت من كان مصحرا | ومـن كان من خلف الخباء المسردق |
وهـل تـؤمن الدنيا التي هي أنزلت | سـليمان مـن فـوق الـبناء المحلق |
ولا سـد فـيها (الـسد) عـمن أقامه | طـريق الـردى يـوما ولا رد مالقي |
واعـظم مـا يـلقى من الدهر فادح | رمـى شـمل آل المصطفى بالتفرق |
فـمن بـين مـسموم وبـين مـشرد | وبـيـن قـتـيل بـالـدماء مـخلق |
غـداة بـني عـبد الـمناف انـوفهم | أبـت أن يـساف الضيم منها بمنشق |
سـرت لـم تـنكب عن طريق لغيره | حـذار الـعدى بل بالطريق المطرق |
الـى أن اتت أرض الطفوف | فخيمت بـاعـلا سـنـام لـلعلاء ومـفرق |
وأخـلفها مـن قـد دعـاهم فلم تجد | سوى السيف مهما يعطها الوعد يصدق |
فـمـالت الـى ارمـاحها وسـيوفها | وأكـرم بـها انـصار صدق وأخلق |
تـعاطت على الجرد العتاق دم الطلا | ولا كـمـعاطاة الـمـدام الـمـعتق |
فـما بـرحت تـلقى الـحديد بـمثله | قـلـوبا فـتثني فـيلقا فـوق فـيلق |
الـى أن تـكسرن الـعواسل والظبا | ومـزقـت الادراع كــل مـمـزق |
لـو ان رسـول الله يـبعث نـظرة | لـردت الـى انـسان عـين مؤرق |
وهــان عـليه يـوم حـمزة عـمه | بـيوم حـسين وهو أعظم ما لقي3 |
ونـال شـجى من زينب لم ينله | من صـفية اذ جـائت بـدمع مـرقرق |
فـكم بـين من للخدر عادت مصونة | ومـن سـيروها فـي الـسبايا لجلق |
ولـيت الـذي أحـنى على ولد جعفر | بـرقـة أحـشاء ودمـع مـدفق4 |
يـرى بـين أيـدي القوم أبناء سبطه | سـبايا تـهادى مـن شقي الي شقي |
وريـانة الاجـفان حـرانة الـحشى | فـفي مـحرق قـامت تنوح ومغرق |
فـقل لـلنجوم الـمشرقات ألا اغربي | ولا تـرغبي بـعد الـحسين بمشرق |
وقـل لـلبحار الزاخرات ألا انضبي | مـضى مـن نـداه مـدها بـالتدفق |
الى أن يقول
قـلبي يـقل مـن الهموم جبالها | وتـسيخ عن حمل الرداء متوني |
وأنـا الـذي لـم أجزعن لرزية | لـو لا رزايـاكم بـني يـاسين |
تـلك الـرزايا الباعثات لمهجتي | مـا لـيس يـبعثه لظى سجين |
كـيف الـعزاء لـها وكل عشية | دمـكم بـحمرتها السماء تريني |
والبرق يذكرني وميض صوارم | أردتـكم فـي كـف كـل لعين |
والرعد يعرب عن حنين نسائكم | فـي كـل لـحن للشجون مبين |
يـندبن قـوما ما هتفن بذكرهم | الا تـضعضع كـل ليث عرين |
الـسالبين الـنفس أول ضـربة | والـملبسين الـموت كل طعين |
لا عيب فيهم غير قبضهم اللوى | عند اشتباك السمر قبض ضنين |
سـلكوا بـحارا مـن دماء أمية | بـظهور خـيل لا بطون سفين |
لـو كـل طـعنة فارس بأكفهم | لـم يـخلق الـمسبار للمطعون |
حـتى اذا الـتقمتهم حوت القضا | وهـي الامـاني دون كـل أمين |
نـبذتهم الـهيجاء فـوق تلاعها | كـالنون يـنبذ بالعرى ذا النون |
فـتخال كـلا ثـم يـونس فوقه | شـجر الـقنا بـدلا عن اليقطين |
* ادب الطف ـ الجزء السابع215_ 232
1- يشير الى تلبية (عبس) حين ثاروا لصبيتهم الثمانية الذين قتلهم بنو ذبيان، وكانوا رهائن عند مالك بن شميع، وذلك في الحرب التي دارت بين ابني بغيض (ذبيان وعبس) 40 سنة بسبب تسابق (قيس وحمل) على رهان مائة ناقة. والتفصيل في مغازي العرب.
2- هبار بن الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى من قريش كان شاعرا هجا النبي قبل اسلامه وأباح النبي دمه يوم فتح مكة لانه روع زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله زوجة أبي العاص بن الربيع حين حملها حموها الى المدينة ليلحقها بأبيها بعد وقعة بدر فتبعهما هبار وقرع هودجها بالرمح وكانت حاملا فأسقطت ما في بطنها، فقال صلى الله عليه وآله: ان وجدتموه فاقتلوه، وجاء في (الجعرانة) قرب مكة فأسلم فقال صلى الله عليه وآله: الاسلام يجب ما قبله.
3- يشير الى مصرع سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب يوم أحد وموقف أخته صفية على جسده ورأته وقد مثلت به هند بنت عتبة وشقت بطنه وأكلت كبده فحولها الله في فمها حجرا.
4- يشير الى عطف النبي صلى الله عليه وآله على أولاد جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين خضراوين، وذلك لما قتل في (مؤتة) سنة 8 من الهجرة.