باسمه تعالى
المبلِّغ: مواصفات - تقنيات
إن معرفة أساليب التبليغ واستعمال الأدوات المفيدة، من جملة الأمور الضرورية التي ينبغي أن يلتفت إليها المبلغ. أما الاشتغال بالتبليغ من دون معلومات مفيدة ومن دون استخدام الأساليب الضرورية واللازمة فهو لا يترك أثراً ايجابياً بل قد يؤدي في الكثير من الحالات إلى آثار سلبية كتوجيه ضربة قاسية لاعتقادات وأفكار المخاطبين. أما إذا لم يتمكن المبلغ والمكلف بالارشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الالتفات إلى الظروف والعوامل والآفات والموانع والشروط الزمانية والمكانية والجهات الأخرى للتبليغ، فهذا يعني أن عمله لن يصل إلى أي نتيجة.
يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "من أمر بمعروف فليكن أمره ذلك بمعروف"1 وعلى هذا الأساس فإن التبليغ الموفق والمؤثر يحتاج إلى برامج متخصصة، وإذا تمكنا من الحصول على هذه الأساليب من أقوال وأفعال أهل البيت عليهم السلام والأولياء فهذا يعني أنها ستكون أكثر تأثيراً. سنحاول في هذا المقال الاطلالة على أساليب التبليغ المؤثرة بالاستفادة من سيرة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه في عاشوراء.
1- التواضع
التواضع هو أهم خصلة وصفة التصقت بالأنبياء العظام وطالبي التوحيد، وقد تمكن الأنبياء من الدخول إلى قلوب المخاطبين الباحثين عن الحق والحقيقة بهذه الوسيلة. والمبلغ الموفق هو المتواضع بشكل دائم ليتمكن بذلك من هداية وجذب قلوب الناس. والمبلغ الموفق هو الذي يؤمن بأن الناس إذا لم يأتوا إليه فعليه هو الذهاب إليهم.
وقد ظهرت هذه الحالة الحسنة في سلوك وفعل الإمام الحسين عليه السلام وكان لها تأثيراً خاصاً في حادثة عاشوراء. تقدم الإمام نحو الجميع بروح وسلوك يدل على مقدار تواضعه ودعى الجميع للالتحاق بأهدافه السامية، لذلك نراه يخاطب الجميع سواء بشكل مباشر وشفهي أو من خلال إرسال الكتب والرسائل أو من خلال أشخاص يرسلهم إلى أماكن متعددة.
عندما كان الإمام الحسين عليه السلام يتحرك نحو كربلاء، وصل إلى محلة باسم قصر بني مقاتل وعلم حينها الإمام عليه السلام أن عبيد الله بن الحر الجعفي يتمركز في إحدى جوانب تلك المنطقة. في هذه الأثناء أرسل الإمام إليه الحجاج بن مسروق حيث دعاه إلى نصرته، وعندما لم يحصل على جواب مناسب، جهز الإمام نفسه وذهب إلى عبيد الله مع مجموعة من أصحابه دعاه أثناء ذلك إلى نصرته ومواجهة الطاغوت، امتنع عبيد الله، عند ذلك قال له الإمام عليه السلام: "فإن لم تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، والله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك".
ومن جملة الذين دعاهم الإمام عليه السلام لنصرته زهير بن القين وحبيب بن مظاهر الأسدي وغيرهم.2
2- الالتفات إلى جذور وأساس المعاصي
ينبغي أن يلتفت مبلغ الدين إلى الأرضية التي تنمو فيها المعاصي وكذلك جذور وأسباب تلك المعاصي، على أساس أن هذا الالتفات مقدمة ضرورية لتحذير المخاطبين منها. مثال ذلك قد يكون هناك العديد من الأسباب والعلل لعدم أداء بعض الأشخاص للصلاة، من قبيل:
1- عدم الاطلاع على حكم الصلاة في الإسلام وعدم المعرفة بالتكليف الشرعي.
2- عدم الالتفات إلى آثار الصلاة الايجابية وعواقب تركها.
3- اتباع الشخص لأهوائه.
4- عدم اهتمام أفراد العائلة كالأب والأم... بالصلاة.
5- حصول حادثة سلبية من المصلين. مثال ذلك: يرفض البعض أداء الصلاة لأن الصورة الموجودة في ذهنه أن بعض المصلين كان يتعامل معه بخشونة أيام الطفولة.
6- إعتقاده بأن الصلاة أمر غير هام حيث لم يدرك أهميتها وضرورتها.
7- عدم امتلاك قدوة مناسبة فيما يتعلق بالصلاة.
8- العيش بين أفراد غير مبالين ولا يكترثون بالصلاة.
إذا تمكن المبلغ من الاطلاع على جذور ظهور المعاصي والأرضية التي تساهم في وجودها فإن ذلك يساعده في تنظيم برامجه الموجهة إلى المخاطبين.
الغذاء الحرام سبب الانحراف عن الحق
تحدث الإمام الحسين عليه السلام يوم العاشر من المحرم، وفي خطبته الثانية بعد أن أطبق عليه الأعداء، طلب من الجميع الاستماع إلا أنهم لم يسكتوا، بدأ الإمام عليه السلام كلامه مجبراً إياهم على السكوت لما كان لعباراته من وقع عليهم، قال عليه السلام: "ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إليَّ فتسمعوا وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد. من أطاعني كان من المرشدين ومن عصاني كان من المهلكين وكلكم عاصٍ لأمري غير مستمع لقولي" ثم بدأ الحديث حول أسباب عداء أهل الكوفة لأهل البيت عليهم السلام وجذور الانحراف عن الحق، قال عليه السلام: "قد انخزلت عطياتكم من الحرام ومُلئت بطونكم من الحرام فطبع الله على قلوبكم".3
3- الاستعانة بالأمثلة
الاستعانة بالأمثلة من أكثر الأساليب التبليغية تأثيراً على مستوى إفهام المطالب للمخاطبين بالأخص للأشخاص أصحاب المستويات الفكرية المتدنية. والمبلغ الماهر هو الذي يتمكن من إيصال الكثير من المسائل العقلية الهامة إلى أذهان المخاطبين بواسطة أمثال تناسبها. وإذا كان المثال يتلاءم مع المستوى المعيشي للناس وأسلوب تفكيرهم ومكونات ثقافتهم واشتغالهم، عند ذلك سيكون المبلغ أكثر نجاحاً في عمله. وتعتبر هذه الطريقة إحدى أهم الطرق التي استعملت في كلام الوحي. تتحدث الآيات القرآنية الشريفة ومن خلال المثال فتصور لنا العلماء الذين لا يعلمون: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾.4
وقد استعمل هذا الأسلوب أيضاً في ملحمة عاشوراء. واستعمل الإمام الحسين عليه السلام هذا الأسلوب لشرح أهداف ثورته واشتياقه للشهادة في سبيل الله: "خُط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف".5
صوّر الإمام الحسين عليه السلام الموت بشكل جميل فاعتبره كالقلادة لابن آدم بالأخص إذا كان الموت في سبيل الحق وكما تُسَرُّ الفتاة بالقلادة كذلك رجال الله يُسَرّون بالموت في سبيل الله.
4- الاستعانة بمسألة تحريك العواطف
قد يستعين المبلغ بعض الأوقات بأسلوب تحريك عواطف المخاطبين بهدف التأثير عليهم وإيقاظ ضمائرهم، وقد استخدم القرآن الكريم هذا الأسلوب بهدف الحفاظ على العباد بعيداً عن المعصية ولأجل إيقاظ ضمائرهم، حيث خاطبهم متوجهاً إلى فطرتهم فساهم بذلك في تليين قلوبهم وأرواحهم. والمبلغ الناجح هو الذي يتمكن من الاستعانة بهذا الأسلوب ليؤثر على الأفراد.
من جهة أخرى نلاحظ أن هذا الأسلوب قد استخدم في عاشوراء أيضاً وكان له العديد من النتائج والآثار على مستوى هداية الأفراد إلى الحق، لا بل ما زلنا نلاحظ آثار ذلك حتى يومنا هذا فبمجرد ذكر اسم الإمام الحسين عليه السلام وعاشوراء حتى تلين القلوب وتستثار العواطف، وهذا يشير إلى مقدار الهداية التي حظي بها هؤلاء.
ـ وقف الإمام الحسين عليه السلام بعد شهادة أصحابه وفي لحظة حساسة ومصيرية وخاطب أهل الكوفة: "يا قوم أما من مجير يجيرنا، أما من مغيث يغيثنا، أما من طالب حق فينصرنا، أما من خائف فيذب عنا، أما من أحد فيأتينا بشربة من الماء لهذا الطفل فإنه لا يطيق الظمأ".6
ـ أما السيدة زينب عليها السلام فقد استعانت بهذا الأسلوب في مواطن عدة بهدف إيصال وإبلاغ رسالة عاشوراء، وقفت السيدة زينب عليها السلام في اللحظات الأخيرة قبل شهادة الإمام الحسين عليه السلام حيث كان عمر بن سعد يهيب بجيشه قتل الإمام، توجهت إليه وخاطبته قائلة: "أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه" فكان لخطابها وقعاً حتى على الأعداء حيث قيل أن عمر بن سعد توقف للحظات متأثراً من هذه الكلمات مما اضطره إلى إخفاء وجهه عن السيدة زينب عليها السلام7. ثم توجهت إلى الأفراد الموجودين في ساحة المعركة قائلة: "ويلكم أما فيكم مسلم". وكان لهذه الكلمات تأثيراً كبيراً ظهر في السنوات اللاحقة وما زال يدغدغ العواطف حتى يومنا هذا.8
5- الاستفادة من وسائل الاتصال
ينبغي أن يستفيد المبلغ من وسائل الاتصال والاعلام المتطورة بهدف الارتقاء بأهدافه. اليوم لا يكفي أن يصعد المبلغ المنبر ليحاضر ويتحدث في أمور دينية، بل عليه الاستفادة من كافة الوسائل لايصال نداء الحق إلى الناس وإلى المشتاقين. من جملة الوسائل: الكتاب، المطبوعات، الراديو، التلفزيون، البرامج الكمبيوترية، المحاورات واللقاءات على أنواعها، التواجد بين الأشخاص الذين لا يحضرون البرامج والمناسبات الدينية.
وقد استفاد الإمام الحسين عليه السلام من أفضل وسائل الاتصال في عصره لتبليغ ثقافة عاشوراء لذلك نرى أن الإمام عليه السلام اختار مراسم الحج وتحدث إلى الحجاج بهدف ايصال فلسفة حركته إلى أسماع المسلمين. خاطب الإمام الحسين عليه السلام الحجيج في منى موضحاً أهداف سياسته والمؤامرات التي يعمل عليها الأعداء. قال عليه السلام: "اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويذهب الحق ويُغلب والله متم نوره ولو كره الكافرون.9
وفي حديث آخر للإمام عليه السلام بدأه بحمد الله والثناء عليه وتوضيح مقام أهل البيت عليهم السلام وعلاقتهم بالله ورسوله... ثم بعد ذلك دعى الجميع للمشاركة في ملحمة عاشوراء حتى قال: "من كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى".10
وفي هذا الاطار أيضاً لا يجب الغفلة عن الدور الذي لعبه النساء والأطفال لابلاغ رسالة عاشوراء وايصالها إلى الأجيال اللاحقة. لقد أحضر الإمام عليه السلام هؤلاء ليكونوا سفراءه في ابلاغ رسالته إلى الأجيال اللاحقة. وكان هذا الأسلوب الذي اعتمده الإمام عليه السلام أكثرها دقة وسلامة واطمئناناً لانتقال ما أراده الإمام.
6- التقديم وإعداد المخاطب
من الأمور الهامة والمؤثرة عند إلقاء المطالب وعرضها التقديم لها بمقدمة تساهم في إعداد المخاطب للنقاط التي يراد إيصالها. ويؤدي هذا الأسلوب إلى إضفاء نوع من الجاذبية على كلام المبلغ، وقد ظهر هذا الأسلوب في ثقافة عاشوراء أيضاً عندما تحدث الإمام السجاد عليه السلام في المسجد الأموي في الشام، فقدم لحديثه بمقدمة هامة مهد فيها الطريق لإحياء ثقافة وفكر عاشوراء وقد أثرت على الحضور الذي عرف حقيقتهم بعد أن كان يعتبرهم أسرى حرب، على أثر ذلك تعالت الصيحات والصراخ مما اعتبر تهديداً لحكومة يزيد.
بدأ الإمام عليه السلام حديثه بحمد الله والثناء عليه وعلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، إلى أن قال عليه السلام: "من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني، فأنا علي بن الحسين بن علي".11
ثم قال عليه السلام: "أيها الناس! أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن المروة والصفا، أنا ابن من صلى بملائكة السماء...".12
تحدث الإمام عليه السلام إلى الناس وعرفهم بالرسول صلى الله عليه وآله وبالإمام علي عليه السلام، ثم أوضح لهم حقيقة حادثة عاشوراء التي كانت ما تزال مجهولة لديهم، ثم خاطب عقولهم وأرواحهم وعواطفهم فقال: "أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المجزور الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلا، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء".13
7- الشعر وثقافة عاشوراء الأدبية
ينبغي تنمية الثقافة الأدبية الإسلامية من أجل الحفاظ على الثقافة القرآنية ونشرها، لأن الكلام الفصيح والبليغ والأدبي يسكن القلوب والأرواح وذلك على عكس الألفاظ والعبارات المستهجنة والركيكة التي لا تترك في النفوس سوى التعب والملل. وفي قاموس عاشوراء الكثير من الآثار الأدبية. ومن جملة ذلك الأراجير والأبيات الشعرية التي نقلت عن الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، جاء في بعض الأبيات الشعرية:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً
وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق خوفاً أن يعيش ويرغما 14
8- التبليغ العملي
صحيح أن التبليغ القولي ومنذ قديم الزمان يترك آثاراً هامة على مستوى هداية الأفراد، إلا أن نتيجة التبليغ العملي أكثر عمقاً وثباتاً. وسيرة الإمام الحسين عليه السلام مليئة بنماذج التبليغ العملي وغير المباشر.
وإذا كانت مسيرة الإمام الحسين عليه السلام مليئة بالدروس والأساليب العملية إلا أنه يمكن ذكر التالي: الثبات في طريق الحق، إحضار أهل البيت من النساء والأطفال، السلوك القريب والعاطفي مع العائلة والأطفال والأصحاب في أوج المشكلة، التعاطي مع قافلة الحر والسماح لها بالتزود بالماء، إقامة صلاة الظهر من عاشوراء، الخطابات القاطعة والواضحة، حوادث ليلة العاشر، رفض العباس رسالة الأمان... وجميعها تشكل دروساً عملية في الإنسانية والحرية والغيرة والشرف.
وفي هذا الإطار وبعنوان حسن الختام يمكن الإشارة إلى نموذج من التبليغ العملي للإمام الحسين عليه السلام:عندما جاءت قبيلة بني أسد لدفن الأجساد الطاهرة. وصلوا إلى جسد الإمام الحسين عليه السلام فوجدوا على كتفه المبارك جرحاً ليس كباقي الجراحات ولا يدل على أنه حصل في كربلاء. واتضح الأمر بعد قدوم الإمام السجاد عليه السلام الذي بَيّن أن سببه قيام الإمام بحمل الطعام والحطب إلى العائلات الفقيرة والمحتاجة وإلى الأرامل والأيتام...15
* عبد الكريم باك نيا
1- كنز العمال، ج3، ص66، الحديث 5523.
2- أسرار الشهادة، ص396.
3- خطاب الحسين بن علي ع ص170.
4- سورة الجمعة، الآية: 5.
5- اللهوف، ابن طاووس، ص114.
6- كلمات الإمام الحسين ع، ص477.
7- تاريخ الطبري، ج4، ص345.
8- الارشاد، المفيد، ج2، ص112.
9- قاموس كلمات الإمام الحسين ع، ص262.
10- كشف الغمة، ج2، ص29، اللهوف لابن طاووس، ص114.
11- نور العين في مشهد الحسين ع، أبو إسحاق الاسفرائيني، ص69.
12- المصدر نفسه.
13- المصدر نفسه، ص70.
14- البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، ج8، ص187.
15- المناقب، ج4، ص66، بحار الأنوار، ج44، ص190.