تصدير الموضوع: قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾1.
الهدف: بيان وجهة النظر القرآنية في موضوع ظهور الفساد وأسبابه وأشكاله والتحذير من عواقبه.
المقدمة
من الواضح أن الله تعالى يعتبر أن ظهور الفساد في الأرض وتفشيه في كافة جوانب الحياة العصرية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والثقافية والإدارية ليطغى على كل شيء كما عبّر الله (في البر والبحر) إنما هو بفعل الإنسان وطغيانه وابتعاده عن سبيل الهدى وظلمه لنفسه وللآخرين، كما أنَّ الله أوضح تماماً أن الإنسان سيعاني من ظهور هذا الفساد ويحّول حياته إلى جحيمٍ وعذاب شديدين لعل ذلك يجعل الإنسان يدرك تماماً أن لا سبيل إلى الحياة الكريمة والهانئة إلا في ربوع الإيمان وطاعة الله فيرجع عن غيّه وفساده.
أسباب ظهور الفساد
عدم التكافل الإجتماعي: قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾2، فالفساد يعشعش في المجتمعات التي لا تولي الشأن العام أي أهمية وتعتني بكل ما هو فردي وخاص مما يُفقد المجتمع أي شكل من أشكال الترابط والتلاحم فيسهل التسلل إلى عمقه والقضاء عليه.
إتباع الهوى: قال تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾3.
أي أن الإنسان ما لم يكبح جماح شهواته وغرائزه كالأنانية والجشع والطمع وحب التسلط وغيرها، ويضع حدّاً لنزواته وميوله النفسية الطائشة فإن النفس تجمح بالإنسان وتقوده لى الفساد الذي قد يطغى على السموات والأرض.
سياسية الظالمين: قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾4 ، فسياسة الظالمين قائمة على تبديل المعايير في الحياة فالعزيز عندهم هم المقربون إليهم وحاشيتهم والحامون لضلالاتهم ونحرافاتهم حتى وإن كانوا أذلة، وأعزة الناس الذين هم أهل الصلاح والكلمة الجريئة والرأي الحر يعترضون طريقهم ويجعلونهم أذلة.
الإبتعاد عن الشريعة: قال تعالى: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾5.
قال تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾6 أي إن أعرضوا عن دين الله وأحكامه فلا يتوهمنّ أن الله غافلٌ عنهم بل إن الله عليم بفساد المفسدين الذين يعدلون عن الحق إلى الباطل أي الذين يبتعدون عن الحق ويلجأون إلى الباطل.
عدم الإيمان: قال تعالى: ﴿وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِين﴾7.
فإن عدم الدين الحنيف والتشكيك فيه يعتبر مظهراً من مظاهر الفساد الديني الذي واجهته الأمة في مطلع الدعوة الإسلامية، وهي تواجهه اليوم بل لقد تعددت أشكال الفساد واتسع مداها وأصبحت تشمل كل جوانب الحياة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأسرية والدولية.
ظلم الناس حقوقهم: قال تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾8. وهو من أسوأ أشكال فساد النفس التي يقدم صاحبها على التجرؤ على الله ورسالته وعباده فيظلمهم فيما يملكون، هذا النوع من الفساد الذي كان علي عليه السلام يقول فيه أني لو أعطيت الأقاليم السبع على أن اعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرة ما فعلت9.
عاقبة الفساد في الدنيا والآخرة
بغض الله للفساد: قال تعالى ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾10 ، وعدم حبه للفساد يستلزم بطبيعة الحال عقابه عليه.
إبطال مفاعيل الفساد: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين﴾11. لأن الفساد مصيره أن تنكشف حقيقة الفاسد أمام الناس وعدم صلاحيته وأهليته لحياة الناس مما يسهم في ابتعاد الناس عنه.
عاقبة السوء في الدنيا: قال تعالى: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾12. والتاريخ القديم والحديث يزخر بقصص الطواغيت والحكام الظالمين وأئمة الجور وكيف كانت عاقبتهم في الدنيا، وكيف لفظتهم الناس وألقت بهم على مزابل التاريخ.
وقد حدّثنا القرآن الكريم عن أمم وأقوام كُثُر كفرت بأنعم الله فأذاقها الله صنوف العذاب، واليوم نرى بأم العين أي نهاية سيئة وصل إليها حكام الفساد والجور سواء من أمة الإسلام أم غيرها.
عاقبة السوء في الآخرة: قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾13.
وهذه الآية إذ تؤكد على أن الفوز بالآخرة يتلازم مع عدم إرادة العلو الذي يستتبع الفساد، فإنها بطبيعة الحال تؤكد بالضرورة أن الذين يتوسلون العلو والسلطة والمناصب والمقامات العالية في الدنيا ولو بالوسائل الفاسدة ويعملون بالفساد من خلال مواقعهم السلطوية سوف لن تكتب لهم النجاة في الآخرة.
1- الروم 41
2- البقرة 251
3- المؤمنون 71
4- النمل 34
5- الأنفال 73
6- آل عمران:63.
7- يونس 40
8- الشعراء 183
9- اعيان الشيعة، السيد محسن المين، ج1، ص 393.
10- المائدة 64
11- يونس 81
12- الأعراف 103
13- القصص 83