لقد كان إنسان ما قبل الإسلام يتمحور في سلوكه الاجتماعي حول ذاته، وينطلق في
تعامله مع الآخرين من منظار مصالحه وأهوائه، وينساق بعيدا مع أنانيته. ولقد هبط في
القاع الاجتماعي إلى درجة «الوأد» لأبنائه، خشية الفقر والمجاعة، الأمر الذي استدعى
التدخل الإلهي، لإنقاذ النفوس البريئة من هذه العادة الاجتماعية القبيحة، قال
تعالى: (ولا تَقتُلُوا أولادَكُم خَشيةَ إملاقٍ)[1].
على أنّ أشد ما يسترعي الانتباه، أنّ ذلك الإنسان الجاهلي، الدائر حول ذاته
ومنافعها، قد غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة، يضحي بالنفس والنفيس في سبيل دينه
ومجتمعه، وبلغت آفاق التحول في نفسه إلى المستوى الذي يُؤثِر فيه مصالح أبناء جنسه
على منافع نفسه.
وليس بخفيّ على أحد مستوى الإيثار الذي أبداه الأنصار مع المهاجرين، إذ شاطروهم في
كلِّ ما يملكون، وحتى في بيوتهم وأمتعتهم، ولم ينحصر هذا المستوى من الايثار
بأفراد، بل شكّل ظاهرة اجتماعية عامّة لم يشهد لها تاريخ الإنسانية نظيرا ـ وفي هذه
الظاهرة نزل قرآن كريم يبارك هذه الروح، ويخلّد ذكر مجتمع تحلّى بها، كنموذج من
نماذج التلاحم الاجتماعي والمؤاخاة. . قال تعالى: (لِلفُقَرَآءِ المُهَاجِرينَ
الَّذِينَ أُخرِجوا مِن دِيارهِم وأموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِّنِ اللّه
وَرِضوانا وَيَنصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ أُولئكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمانَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إليهِم وَلا
يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤثرُونَ عَلى أنفُسِهِم ولَو
كانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئكَ هُمُ المُفلِحُونَ)[2].
وينقض الإسلام أُسسا في البناء الاجتماعي الجاهلي قوامها تعزيز التقسيم الطبقي
والقَبَلي للمجتمع، الذي كان يتشكل من طبقتين أساسيتين ؛ طبقة الأشراف، وطبقة
العبيد، ولا بدَّ لأبناء طبقة الأشراف أن يبقوا هكذا، تجتمع لديهم الثروات ويحتكرون
الشأن والوجاهة، ولا بدَّ لأبناء طبقة العبيد أن يبقوا هكذا يدورون في فلك الأسياد.
. فقوّض الإسلام هذه الاُسس وأقام محلّها أُسسا جديدة تساوي بين الناس في حق الحياة
وحق الكرامة، قال تعالى: (يا أيُّها الناسُ إنّا خَلقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى
وجَعَلنَاكُم شُعُوبا وقَبَائلَ لِتَعارفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِندَ اللّه
أتقاكُم)[3]، فتحرر أبناء طبقة العبيد ومارسوا حقهم في الحياة، وارتفع عمار وسلمان
وبلال عاليا فوق طبقة أشراف قريش التي ما زالت تتخبط في ضلالات الجاهلية، كالوليد
بن المغيرة وهشام بن الحكم وأبي سفيان وأمثالهم. .
وحتى الأموال لم تعد حكرا على الأغنياء ليزدادوا ثراءً، قال تعالى: (مَّآ أفَآءَ
اللّه عَلى رَسُولِهِ مِن أهلِ القُرى فللّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذي القُربى
وَاليتامى والمساكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ كَي لا يَكُونَ دُولَةٌ بَينَ الأغنِيآءِ
مِنكُم وَمَآ آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا
وَاتَّقُوا اللّه إنَّ اللّه شَدِيدُ العِقَابِ)[4].
أساليب تنمية الشعور الاجتماعي:
لقد نمّت العقيدة الشعور الاجتماعي لدى الفرد بوسائل عديدة، منها:
أ ـ إيقاظ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين:
من خلال تأكيد القرآن الكريم على مسؤولية الإنسان تجاه نفسه وغيره، كقوله
تعالى: (وقِفُوهُم إنَّهُم مسؤولُونَ)[5]، وقوله تعالى: (يا أيُّها الَّذِين
آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارا..)[6].
وقول الرسول الأكرم (ص): «وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون»[7].
وقوله (ص) أيضا: «ألا كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على النّاس
راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرَّجُلُ راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأةُ
راعية على بيتِ بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم..»[8].
ويقول أمير المؤمنين (ع): « اتّقوا اللّه في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن
البقاع والبهائم..»[9].
وكنظرة مقارنة، نجد أنّ المذاهب الاجتماعية الوضعية، بُنيت على أساس المسؤولية
الفردية في هذه الحياة فحسب، وتأييدها بمؤيدات قانونية كحجز الحرية، أو التعذيب، أو
التغريم المالي أو العزل عن الوظيفة، أو التسريح عن العمل، أو المكافأة بالمال أو
الترقية في الوظيفة.. وما إلى ذلك، وبمؤيدات اجتماعية كالثقة أو حجبها والتقدير أو
التحقير.
أما المذهب الإسلامي، فلا يقتصر على مسؤولية الفرد أمام المجتمع الذي يعيش بين
ظهرانيه في هذه الحياة، وإنّما يُنمّي في الفرد المسؤولية العظمى أمام الخالق
العظيم في حياة أُخرى، وحينئذ يدفعه إلى التحديد الذاتي أو الطوعي لرغباته، والشعور
الاجتماعي نحو غيره، بغض النظر عن القانون أو العرف أو الضمير، لأنّ الضمير قد يعجز
عن مواجهة الغرائز عند فقدان العقيدة الدينية، كما أنّه ليس من الميسور توفير
الرقابة الاجتماعية في كلِّ مكان، وبصورة دائمة، وعليه فإنّ هذه الرقابة الداخلية
لا توجد في غير العقيدة الدينية.
ب ـ تنمية روح التضحية والايثار:
لقد حثَّ القرآن الكريم على الايثار، وأشاد بروح التضحية التي اتّصف بها
المسلمون، فلمّا بات علي بن أبي طالب (ع) على فراش الرسول (ص) يفديه بنفسه، فيؤثره
بالحياة، أشاد اللّه تعالى بهذا الموقف التضحوي الفريد، فأنزل: «ومِنَ النَّاسِ
مَنْ يَشرِي نَفسهُ ابتغاءَ مرضاتِ اللّه واللّه رؤوفٌ بالعبادِ»[10].
يقول الفخر الرازي: «... نزلت في علي بن أبي طالب (ع)، بات على فراش رسول اللّه (ص)
ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنّه لمّا نام على فراشه قام جبريل (ع) عند رأسه،
وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخٍ بخٍ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي اللّه بك
الملائكة، ونزلت الآية»[11].
وقدّمت السيرة المطهّرة القدوة الحسنة في هذا المقام، فقد روي عن الرسول (ص) أنّه
ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شاء لشبع، ولكنه كان يؤثرُ على
نفسه[12].
وهذا السلوك النبوي، ظهرت بصماته واضحة في سلوك أهل بيته: ، الذين يسيرون على نهجه،
ويترسمون خطاه، ويترجمون أقواله إلى واقع عملي ملموس: «..عن محمد بن كعب القرظي،
قال: سمعت علي بن أبي طالب (ع) يقول: لقد رأيتني وإنّي لأربط الحجر على بطني من
الجوع، وإنّ صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار[13]»، كلّ ذلك لأنّه كان يؤثر على
نفسه، ويفضّل مصلحة غيره على مصلحته.
قال أبو النوار ـ بياع الكرابيس : أتاني علي بن أبي طالب (ع): ومعه غلام له، فاشترى
مني قميصَيّ كرابيس، فقال لغلامه: اختر أيُّهما شئت، فأخذ أحدهما، وأخذ علي الآخر
فلبسه[14].
ومن الشواهد التأريخية، التي تدل على ذلك التحوّل الاجتماعي الكبير الذي أحدثته
العقيدة، في فترة وجيزة، أنّه أُهدي لرجل من أصحاب رسول اللّه (ص) رأس شاة، فقال:
إنّ أخي فلانا أحوج إلى هذا منّا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى
تداوله سبعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الأول[15].
هكذا تربي العقيدة الإنسان المسلم على الشعور الاجتماعي، شعور الفرد نحو غيره،
فيتجاوز دائرة الذات إلى دائرة أرحب هي دائرة العائلة، ثم تتسع اهتماماته لتشمل
دائرة الجوار، ثم أبناء بلدته، وبعدها أبناء أمته، وفي نهاية المطاف تتسع لدائرة
أكبر فتشمل الإنسانية جمعاء.
ج ـ تنمية الشعور الجماعي:
وفي هذا الصدد، نجد فيض من الأحاديث التي تحثُّ الفرد على الانضمام للجماعة
والانسجام معها، والانصباب في قالبها، بعد أن ثبت عند العقلاء بأنّ في الاجتماع قوة
ومنعة، وبعد أن أكد النقل على أنّ اللّه تعالى قد جعل فيه الخير والبركة، يقول
الرسول الأكرم (ص): «يدُ اللّه مع الجماعة، والشيطان مع من خالف الجماعة
يركُضُ»[16].
وقال (ص): «من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»[17].
وفي كلِّ ذلك دليل قاطع على أنّ الإسلام دين اجتماعي، يحاول ربط الفرد بالجماعة، ما
استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وهنا لا بدَّ من التنبيه على أنّ الحكام الظلمة، قد استغلوا مفهوم «الجماعة» أبشع
استغلال لتثبيت سلطانهم والمحافظة على عروشهم، فاخذوا يصبّون جام غضبهم على كلِّ من
يجهر بكلمة الحق ويقوم بمعارضة تسلطهم اللامشروع، ويفضح أساليبهم غير الإسلامية،
وكان الأمويون ـ الذين اتّخذوا مال اللّه دولاً وعباده خولاً ـ يقتلون كل من خرج
عليهم بحجة أنّه مفارق للجماعة، وكذلك سار العباسيون على ذلك النهج، بل وتفوّقوا
على الأمويين في ابتكار أساليب القتل والتعذيب.
ومن يتصفّح كتب التأريخ، يجد أنّه ينقل صورا بشعة لأساليب التنكيل والقتل التي
مارسها الأمويون والعباسيون ضد العلويين بحجة واهية هي الخروج عن الاجماع والجماعة.
على أنّ الرسول (ص) قد أوضح بجلاء مفهوم الجماعة الذي لا يعني ـ بالضرورة ـ الكثرة،
كما يتصوره السطحيون وكما يُحرِّفه السلطويون، بل يعني جماعة أهل الحقّ وإن قلّوا،
قال (ص): «من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه قيل: يا رسول اللّه
ما جماعة المسلمين؟ قال (ص): جماعة أهل الحق وإن قلّوا»[18].
وعودة إلى أصل المطلب، فقد تبيّن لنا بأنّ العقيدة تدعو الإنسان المسلم إلى
الانضمام إلى الجماعة، وهنا ثمة تساؤل يفرض نفسه، وهو وجود أحاديث كثيرة في
مصادرنا، تدعو الإنسان المسلم إلى إيثار العزلة، وبالتالي الابتعاد عن الناس، يُجيب
مؤلف جامع السعادات، الشيخ النراقي عن ذلك بقوله: (نظر الأولون إلى إطلاق ما ورد في
مدح العزلة، وإلى فوائدها وما ورد في مدحها، كقول النبي (ص): «إنّ اللّه يحب العبد
التقي الخفي »، وقوله (ص): «أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللّه، ثم
رجل معتزل في شعب من الشعاب».
وقول الإمام الصادق (ع): «فسد الزمان، وتغيّر الاخوان، وصار الانفراد أسكن للفؤاد»،
وقوله (ع): «أقلل معارفك، وأنكر من تعرف منهم».
إلى أن قال: فالصحيح أن يقال: إنَّ الأفضلية منهما ـ أي المخالطة والعزلة ـ تختلف
بالنظر إلى الأشخاص والأحوال والأزمان والأمكنة، فينبغي أن ينظر إلى كلِّ شخص
وحاله.. أنَّ الأفضل لبعض الخلق العزلة التامة، ولبعضهم المخالطة، ولبعضهم الاعتدال
في العزلة والمخالطة)[19].
ويمكننا التوفيق بين الطائفتين بالقول: إنّ الاتجاه الداعي إلى العزلة، يمكن حمله
على عدّة وجوه، منها: أنّ التوجه للعبادة يتطلب ـ عادةً ـ الابتعاد عن الناس آنا
ما، بغية الانقطاع إلى اللّه تعالى.
وهذا الأمر ـ بطبيعة الحال ـ لا ينطبق على جميع العبادات، فالحج الذي هو عبادة ذات
صبغة اجتماعية، يجتمع خلاله الناس من كلِّ حدب وصوب في مكان واحد، وزمان محدد،
لأداء شعائر واحدة.
من جانب آخر يمكن حمل العزلة على تجنّب مخالطة الأشرار، فقد ورد في وصية الرسول (ص)
لأبي ذر الغفاري (رض):...«يا أبا ذر، الجليس الصالح خيرٌ من الوحدة، والوحدة خيرٌ
من جليس السوء..»[20].
أما الاختلاط بالأخيار، فهو أمر مرغوب فيه، والإسلام ـ كما أسلفنا ـ يحثُ عليه،
وعلى العموم فهناك حالات استثنائية تستدعي العزلة عن الناس، أما القاعدة العامة في
الإسلام، فتؤكد على مخالطة الناس، والصبر على أذاهم.
يقول الرسول الأكرم (ص): «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن
الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»[21].
والإسلام يبغض العزلة التامة عن الناس مهما كانت مبرراتها، عبادية أو غيرها، فلا
رهبانية في الإسلام كما هو معروف، ومن الشواهد النقلية على ذلك أن رسول اللّه (ص)
فقد رجلاً، فسأل عنه فجاء، فقال: يا رسول اللّه إنّي أردتُ أن آتي هذا الجبل فأخلو
فيه فأتعبّد، فقال رسول اللّه (ص): «لصبر أحدكم ساعةٍ على ما يكره في بعض مواطن
الإسلام خير من عبادته خالياً أربعين سنة»[22].
وعلى ضوء ذلك فهناك مواطن تتطلب من الفرد أن ينظم إلى الجماعة وأن ينصهر بها،
كمواطن الجهاد، وحضور الجماعة في المساجد، والدراسة في مراكز التعليم المختلفة
وغيرها.
الأستاذ عباس ذهيبات – بتصرف يسير
[1] الاسراء 17: 31.
[2] الحشر 59: 8 ـ 9.
[3] الحجرات 49: 13.
[4] الحشر 59: 7.
[5] الصافات 37: 24.
[6] التحريم 66: 6.
[7] كنز العمال 5: 289.
[8] صحيح مسلم 3: 1459 كتاب الامارة ـ دار احياء التراث ط1.
[9] نهج البلاغة، خطبة 167.
[10] تفسير مجمع البيان 1: 174. والآية من سورة البقرة 2: 207.
[11] التفسير الكبير، للفخر الرازي 5: 223.
[12] تنبيه الخواطر، للامير ورّام 1: 172 باب الايثار.
[13] أُسد الغابة، لابن الاثير 4: 102 / 3783 ـ دار احياء التراث العربي.
[14] أُسد الغابة، لابن الأثير 4: 103.
[15] أسباب النزول، لابي الحسن النيسابوري: 281 ـ انتشارات الرضي. وفي طبعة عالم
الكتب: 235.
[16] كنز العمال 1: 206.
[17] كنز العمال 1: 206 / 1035.
[18] روضة الواعضين، للفتّال النيسابوري: 334 ـ منشورات الرضي ـ قم.
[19] جامع السعادات، للنراقي 3: 195 ـ 197 ـ مطبعة النجف الاشرف 1383 ه ط3.
[20] مكارم الاخلاق، للطبرسي: 466 ـ مؤسسة الاعلمي ـ ط6.
[21] كنز العمال 1: 154 / 769.
[22] ميزان الحكمة، الريشهري، ج 3، ص 1966.