يقول تعالى:
﴿..ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا..﴾
حلّل القرآن الكريم حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلُّق الهداية به، فوجده -
بالنّظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الأخرويّة عند الله
سبحانه، التي لا غنى له عنها في سيره الاختياريّ إلى ربّه - فقيراً كلَّ الفقر في
ذاته، صِفرَ الكفّ بحسب نفسه. قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ..﴾ فاطر:15. وقال:
﴿..وَلَا
يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا
حَيَاةً وَلَا نُشُورً﴾ الفرقان:3.
فهو واقعٌ في مهبط الشقاء ومنحطّ البُعد ومنعزل المسكنة، كما يشير إليه قوله تعالى:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ﴾ التين:4-5. وإذا كان كذلك، فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقرّ
السعادة يتوقّف على انصرافه عمّا هو فيه من مهبط الشقاء ومُنْحَطّ البعد، وانقلاعه
عنه برجوعه إلى ربّه، وهو توبتُه إليه في أصل السعادة؛ وهو الإيمان، وفي كلّ سعادة
فرعيّة؛ وهي كلّ عمل صالح، أعني [بما تقدّم] التوبة والرجوع عن أصل الشقاء وهو
الشرك بالله سبحانه، وعن فروعات الشقاء وهي سيّئات الأعمال بعد الشرك، فالتوبة
بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن ألواث البُعد والشقاء يتوقّف عليها الاستقرار
في دار الكرامة بالإيمان، والتنعّم بأقسام نِعم الطاعات والقربات، وهي بمعنى الرجوع
إلى الله تعمّ التوبتَين جميعاً، بل تعمّهما وغيرهما.
التوبة رجوعٌ من الله تعالى إلى العبد بالتّوفيق
ثمّ إنّ الإنسان لمّا كان فقيراً في نفسه، لا يملك لنفسه خيراً ولا سعادة قطُّ إلّا
بربّه، كان محتاجاً في هذا الرجوع أيضاً إلى عناية من ربّه بأمره، وإعانةٍ منه له
في شأنه، فيحتاج رجوعه إلى ربّه بالعبوديّة والمسكنة إلى رجوعٍ من ربّه إليه
بالتوفيق والإعانة، وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدّمة على توبة العبد إلى ربّه،
كما قال تعالى:
﴿..ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا..﴾ التوبة:118. وكذلك الرجوع
إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب، وتطهيره من القذارات وألواث
البُعد، وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخّرة عن توبة العبد إلى ربّه
كما قال تعالى:
﴿..فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ..﴾ النساء:17. وإذا
تأمّلتَ حقّ التأمّل وجدتَ أنّ التعدّد في توبة الله سبحانه إنّما عُرِضَ لها من
حيث قياسها إلى توبة العبد، وإلّا فهي توبة واحدة، [و] هي رجوع الله سبحانه إلى
عبده بالرحمة، ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعاً إليه، قبلَها وبعدها.
وكذلك القرب والبُعد لمّا كانا نِسبيّين أمكن أن يتحقّق البُعد في مقام القرب بنسبة
بعض مواقفه ومراحله إلى بعض، ويصدق حينئذٍ معنى التوبة على رجوع بعض المقرّبين من
عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقفٍ أرفع منه وأقرب إلى ربّه، كما
يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء وهم معصومون بنصّ كلامه، كقوله تعالى:
﴿فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ..﴾ البقرة:37. وقوله
تعالى:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ..﴾ البقرة:127، إلى قوله:
﴿..وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ البقرة:128.
سبعُ حقائق عن التوبة
فتلخّص ممّا مرّ:
أوّلاً: أنّ نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لِمغفرة ذنوبه وإزالة ظلمة المعاصي
عن قلبه - سواءٌ في ذلك الشرك وما دونه - توبةٌ منه تعالى لعبده (على عبده)، وأنّ
رجوع العبد إلى ربّه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه، سواء في ذلك الشرك وغيره، توبةٌ
منه إلى ربّه. ويتبيّن به أنّ من الواجب في الدعوة الحقّة أن تعتنيَ بأمر المعاصي
كما تعتني بأصل الشرك، وتندب إلى مطلق التوبة، الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن
المعاصي.
ثانياً: أنّ التوبة من الله سبحانه لعبده - أعمُّ من المبتدئة واللاحقة - فضلٌ منه
كسائر النِّعم التي يتنعّم بها خلقُه من غير إلزامٍ وإيجابٍ يَرِد عليه تعالى من
غيره، وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى، عقلاً، إلّا ما يدلّ عليه أمثال قوله
تعالى:
﴿..وَقَابِلِ التَّوْبِ..﴾ المؤمن:3، وقوله:
﴿..وَتُوبُوا إِلَى اللهِ
جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ النور:31، من الآيات
المتضمّنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة، والنادبة إلى التوبة الداعية إلى الاستغفار
والإنابة وغيرها، المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، والله سبحانه لا
يُخْلف الميعاد.
ثالثاً: أنّ التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدّم من الآيات المنقولة وغيرها إنّما
هي حقيقةٌ ذاتُ تأثيرٍ في النفس الإنسانيّة من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح
الإنسانيّ الذي فيه سعادة دنياه وآخرته. وبعبارة أخرى: التوبة إنّما تنفع إذا نفعت
في إزالة السيّئات النفسانيّة التي تجُرّ إلى الإنسان كلّ شقاء في حياته الأولى
والأخرى، وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة. وأمّا الأحكام الشرعيّة والقوانين
الدينيّة، فهى بحالها، لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.
رابعاً: أنّ المِلاك الذي شُرّعت لأجله التوبة هو التخلّص من هلاك الذنب وبوار
المعصية، لكونها – أي التوبة - وسيلةَ الفلاح ومقدّمةَ الفوز بالسعادة، كما يشير
إليه قوله تعالى:
﴿..وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ النور:31. ومن فوائدها مضافاً إلى ذلك، أنّ فيها حفظاً
لروح الرجاء من الانخماد والركود، فإنّ الإنسان لا يستقيم سيرُه الحيويّ إلّا
بالخوف والرجاء المتعادلَين حتّى يندفعَ عمّا يضرّه وينجذبَ إلى ما ينفعه، ولولا
ذلك لهلك. قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ..﴾ الزمر:53-54،
ولا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاطٍ من الروح الفعّالة وجِدٍّ في
العزيمة والسعي ما لم تخسرْ صفقتُه في متجر الحياة، وإذا بدا له ما يُخسر عمله
ويُخيب سعيه ويبطِل أمنيّته استولى عليه اليأس وانسلّت به أركان عمله، وربّما انصرف
بوجهه عن مسيره آيساً من النجاح خائباً من الفوز والفلاح، والتوبةُ هي الدواء
الوحيد الذي يعالجُ داءَه، ويُحيي به قلبَه، وقد أشرف على الهلَكة والرّدى.
خامساً: أنّ المعصية - وهى الموقف السوء من الإنسان - ذاتُ أثر سيّء في حياته لا
يُتاب منها ولا يرجَع عنها إلّا مع العلم والإيقان بمساءتها، ولا ينفكّ ذلك عن
الندم على وقوعها أوّلاً، والندمُ تأثّر خاصّ باطنيّ من فعل السَّيّء، ويتوقّف على
استقرار هذا الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيّئة الدالّة على الرجوع
والتوبة ثانياً. وإلى هذا يرجع جميع ما اعتُبر شرعاً من آداب التوبة، كالندم
والاستغفار والتلبّس بالعمل الصالح والانقلاع عن المعصية، إلى غير ذلك ممّا وردت به
الأخبار وتعرّضت له كُتب الأخلاق.
سادساً: أنّ التوبة وهي الرجوع الاختياريّ عن السيّئة إلى الطاعة والعبوديّة إنّما
تتحقّق في ظرف الاختيار وهو الحياة الدنيا، وأمّا فيما لا اختيار للعبد هناك في
انتخاب كلٍّ من طريقَي الصلاح والطلاح، والسعادة والشقاوة، فلا مسرحَ للتوبة فيه.
ومن هذا الباب التوبةُ فيما يتعلّق بحقوق الناس، فإنّها إنّما تُصلِح ما يتعلّق
بحقوق الله سبحانه، وأمّا ما يتعلّق من السيّئة بحقوق الناس ممّا يُحتاج في زواله
إلى رضاهم فلا يُتدارك بها البتّة، لأنّ الله سبحانه احترمَ الناس بحقوقٍ جعلها لهم
في أموالهم وأعراضهم ونفوسِهم، وعدَّ التعدّي على أحدهم في شيء من ذلك ظلماً
وعدواناً، وحاشاه أن يسلبَهم شيئاً ممّا جعله لهم من غير جُرمٍ صدرَ منهم، فيأتي هو
نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك، وقد قال عزّ مِن قائل:
﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ
النَّاسَ شَيْئًا..﴾ يونس:44. ومن هذا الباب أيضاً توبة من سَنّ سُنّة سيّئة أو
أضلّ الناس عن سبيل الحقّ، وقد وردت أخبارٌ أنّ عليه مثلَ أوزار من عمِل بها أو ضلّ
عن الحقّ، فإنّ حقيقة الرجوع لا تتحقّق في أمثال هذه الموارد لأنّ العاصي أحدث فيها
حدثاً له آثارٌ يبقى ببقائها ولا يتمكّن من إزالتها، كما في الموارد التي لا تتجاوز
المعصية ما بينه وبين ربّه عزّ اسمه.
سابعاً: أنّ التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيّئات - كما يدلّ عليه قوله
تعالى:
﴿..فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ
وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ..﴾ البقرة:275، بل ظاهر قوله تعالى:
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ
وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابً﴾ الفرقان:70-71، وخاصّة بملاحظة الآية
الثانية أنّ التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان والعمل الصالح توجب تبدّل السيّئات
حسنات - إلّا أنّ اتّقاء السيّئة أفضل من اقترافها ثمّ إمحائها بالتوبة، فإنّ الله
سبحانه أوضح في كتابه أنّ المعاصي كيفما كانت إنّما تنتهي إلى وساوس شيطانيّة نوعَ
انتهاء، ثمّ عبّر عن المخلَصين المعصومين عن زلّة المعاصي وعثرة السيّئات بما لا
يعادله كلُّ مدح ورد في غيرهم، قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ *
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ..﴾ الحجر:39-42، وقال تعالى
حكايةً عن إبليس أيضاً في القصّة:
﴿..وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
الأعراف:17. فهؤلاء من الناس مختصّون بمقام العبوديّة التشريفيّة اختصاصاً لا
يشاركهم فيه غيرُهم من الصالحين التائبين.
* العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ