كلمة الإمام الخامنئي في لقائه كوكبةً من الشعراء والمثقّفين بمناسبة ذكرى ولادة
الإمام الحسن المجتبى (ع( 2018/05/30 م
بسم الله الرّحمن الرّحيم[1]
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، ولعنة
الله على أعدائهم أجمعين.
كانت جلسة طيّبة وجيدة، ونقطة الضعف الوحيدة فيها هي أنَّ عدداً من الأصدقاء
الحاضرين - من الإخوة والأخوات - كانوا يرغبون أن يلقوا أشعارهم وننتفع منها فلم
نوفَّق لهذا الشيء. وبالطبع؛ فإنَّ الوقت قد انقضى والساعة الآن قد جاوزت الثانية
عشرة، وطالت هذه الجلسة أكثر من المألوف. بالنهاية، هذا ما قد يحصل أحياناً.
مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي
السّفُنُ[2]
أشعار جيدة؛ تجديد وإبداع
أولاً؛ كانت أشعار هذه الليلة - والحقّ يُقال – أشعاراً جيّدة جداً. يقولون "إنّهم
شباب". كان عددٌ من الحضور الذين ألقوا أشعارهم [الليلة] من الشباب، والحقيقة إنَّ
أشعارهم كانت جيّدة وبليغة، لیس فقط من حيث الإبداعات والتجديدات الّلغوية؛ وهو ما
يُلاحظ والحمد لله في شعر اليوم، بل من حيث التطرّق لموضوعات مهمّة ولافتة وجديدة
أحياناً. وكذلك من حيث التنميق اللفظي والسبْك الّلغوي والاستعمال المناسب للمفردات.
يرى المرء أنّ الأشعار جيّدة جداً والحمد لله. أحياناً تلاحظ حالات من الضعف اللغوي
في الأشعار المعاصرة والأشعار الثوريّة التي تحتوي الكثير من المضامين الجيّدة
والجديدة. وأرى أنَّ هذه الهفوات اللغوية تزول تدريجيّاً، وهذا ما تحقّق الليلة
والحمد لله.
شِعْرنا؛ محافظٌ وعفيف
أشير إلى جملة من النقاط فيما يتعلّق بموضوع الشعر. واحدة من هذه النقاط
التي أعتقد أنّه ينبغي الاهتمام بها في الوقت الحاضر هي أنَّ الشعر الفارسي منذ
بداية ظهوره ونشوئه وإلى اليوم تقريبًا، كان في الغالب شِعراً عفيفاً حيِيًّا
محافِظًا. وما أقوله هو عن دراسة وتقصّي. لا أقول إنَّه لم يكن هناك شعر متهتّك
ومتفلّت، بلى، كان هذا موجوداً في الماضي أيضاً، ولكنَّه قليل، وكان موجوداً أيضاً
في الفترات المتأخّرة أيضاً ـ من قبيل أشعار إيرج أو خاكشير وأمثالهم؛ حيث كانت
أشعارهم صريحة وواضحة الفجور ومتهتّكة ـ لكن هذه حالات نادرة. ففي الشعر الفارسي
منذ بداياته، ولنفترض مثلاً حتّى خلال حقبة الشعر الخراساني؛ حيث كانت توجد في
بداية القصائد ومقدّماتها بعض الغراميات وعلى حدّ تعبيرهم شعر التشبيب ـ شعر الغزل
والنسيب وما إلى ذلك ـ لكن حالة الحياء والعفاف بقِيَت محفوظة. من أجل أن يتبيّن ما
هو قصدي على وجه الدقّة أُقارن الشعر الفارسي مع الشعر العربي في ذلك الزمن.
وبالطبع؛ فإنَّ الشعر العربي اليوم ليس على هذا النحو. لحُسن الحظ؛ فالشعر العربي
اليوم شِعرٌ ملتزم وجيّد جداً. ويوجد الآن هنا أربعة من الشعراء العرب اللبنانيين
ألقوا على مسامعي قبل الصلاة، بضعة أبيات من أشعارهم وكانت جيّدة ومميّزة حقاً. لكن
الأمر لم يكن على هذا النحو في الماضي. افترضوا مثلاً أن شاعراً يسمح لنفسه أن
يتغزّل بامرأة معروفة في المجتمع فيذكُر اسمها في شعره ويُبدي حبّه لها. هذا الأمر
كان رائجاً، [إلّا] أنّكم لا تروْنَه في الشعر الفارسي، ولا يوجد مثل هذا الشيء فيه.
يُظهر الشاعر في الشعر الفارسي المحبّة والمودّة وما شاكل لكن المعشوقة غير معروفة.
وغالباً ما تكون المعشوقة خياليّة أو عامّة وليست شخصاً محدّداً. أما في القصائد
العربية خلال عصورها الأولى؛ لم يكن الأمر كذلك، بل كان هناك شخصيّة محدّدة يقصدها
الشاعر. لنضرب مثلاً قول الشاعر:
ولو أنّ ليلى الأخيلية سلَّمت عليَّ ودوني جندلٌ وصفائحٌ[3]
كانت «ليلى الأخيلية» امرأة مُحدّدة، سيّدة محترمة ولها شأنها في المجتمع، وهذا
الشاعر المعروف يتغزّل بهذه المرأة؛ ولم يكن في الأمر أيّ مشكلة. أو على سبيل
المثال، [نذكر] شاعراً معروفاً آخر - معاصراً للفرزدق وجرير- يُدعى "كُثَيّر" كان
يعشق شاعرة اسمها "عزَّة". ولكَثرة ما تغزل كُثَيّر هذا بتلك الشاعرة عُرف باسم "كُثَيّر
عزَّة"؛ أي إنّكم إذا أردتم الآن أن تفتّشوا عن سيرة كُثَيّر يجب أن تبحثوا عن «كُثَير
عزَّة». كان هذا الفعل رائجاً وشائعاً [في الشعر العربي]، أمَّا في الشعر الفارسي
فلا تشاهدون مثل هذا الشيء على الإطلاق. نعم، كان موجوداً في قصائد ذلك الزمن أو
بعده في الغزليّات والتشبيب -التشبيب أو النسيب على حدّ تعبيرهم - أو كان هناك غزل
وحبّ وغراميات، إلّا إنّهم لم يكونوا يذكرون اسم شخص معيّن على الإطلاق ويظهرون
حبّهم له. طبعاً، في الفترة الأخيرة ذكر "شاملو" اسم "آيدا" لكنّها كانت زوجته ولم
تكن غريبة أو أجنبيّة عنه، وتغزّل بها في أشعاره. إذاً، الشعر الفارسي شعر عفيف.
حسنٌ، قلتُ إنّه قد ظهرت بعض الحالات أُلّفت فيها أشعار متهتّكة ومتفلّتة وذُكرت
فيها كلمات بذيئة ـ يخجل الإنسان أحياناً من ذكرها أو حتى تذكّرها ـ لكنّها نادرة
جداً. لقد كان الشعر الفارسي شعراً عفيفاً على مرِّ التاريخ فحافِظوا على هذا الشيء.
ينبغي أن نحافظ على هذه العفّة في الشعر في الأوساط الشعريّة. هذه نقطة مهمّة.
دور الشِّعر في صناعة الخطاب وإشاعة القِيَم
أمّا النقطة الثانية يا أعزائي فهي أنَّ الشعر من الفنون المؤثّرة. توجد
في الشعر خصوصيّة لا توجد في الكثير من الفنون الأخرى. بعض الفنون مؤثّرة في مجالات
أخرى وبشكل آخر ـ كالسينما والمسرح وما شاكل ـ لكن الشعر يؤثّر بشكل آخر. ينبغي
للشعر أن يصنع تيارات؛ أي ينبغي على جماعة الشعراء في البلاد أن ينظّموا الشعر
ويؤلّفوه ويبدعوا فيه وينشروه في البيئات الفنيّة والشعرية في البلاد؛ بحيث يحوّل [هذا
الشعر] القضايا المهمّة والراهنة في البلاد إلى خطاب وحديث عام في البلد. لنفترض
مثلاً قضيّة العدالة، وقضيّة المقاومة والصمود، وقضيّة الأخلاق؛ كم نحتاج إلى أخلاق
المعاشرة [التعامل] فيما بيننا، وهذا ما أكّدتُ عليه قبل البارحة في جلسة عُقِدت
هنا مع الشباب[4]. يجب أن تكون أخلاقنا الفرديّة والشخصيّة مهذّبة ومتسامية ورفيعة،
وكذلك أخلاق معاشرتنا وسلوكيّاتنا مع الناس، من قَبيل الصفح والتجاوز والإيثار
والصدق والأخوّة وما إلى ذلك. ومن حُسن الحظ، أنّ في تاريخ شِعرنا الكثير من الكلام
حول هذه المواضيع، حيث نُظّمت الكثير من الأشعار الراقية، وينبغي مواصلة صناعة
الخطاب والرأي [العامّ] هذا. وكذا الحال في المواضيع المتنوّعة كما أشرت،
كالمقاومة والثبات، ومن قبيل ما ورد الليلة في بعض الأشعار التي أُلقيت وكانت
موضوعات مهمّة.
دور الشعر في إنتاج الفِكْر وتعميقه
ثمّة نقطة أخرى حول الشعر، وهي أنّ الشعر الفارسي كان له دوره طوال
التاريخ في إنتاج الفكر وتعميقه. لو نظرتم لوجدتم أنّ الحكمة كثيرة في الشعر
الفارسي. إنّنا نُطلق على أبي القاسم الفردوسي لقب «الحكيم الفردوسي»، وعلى نظامي «الحكيم
نظامي»، وعلى سنائي «الحكيم سنائي»، وإلى آخره؛ وسعدي الشيرازي حكيم حقيقي، وحافظ [الشيرازي]
حكيم وعارف حقيقي. أي إنّهم جعلوا شِعرَهم وعاءً للحكمة، والحكمة هنا حِكمة إسلامية،
حِكمة قرآنية، وحِكمة معنويّة ونبويّة. الشعر الفارسي مليءٌ بالحكمة، وينبغي لهذه
الروحيّة وحالة الحكمة والأخلاق هذه أن تُبرّز في شِعرنا المعاصر. لاحظت في الأشعار
التي أُلقِيَت الليلة هنا؛ أنّ بعض الأبيات تتضمّن حكمة حقيقيّة، وكانت من الأبيات
التي يمكن الاحتفاظ بها في الذاكرة وفي الكتب وفي الكتابات ونقلها ونشرها. والنقطة
المقابلة لهذه الحكمة والأخلاق وإيجاد الفكر وتعميقه وبثِّ الأمل في الشعر، هي أن
ندفع متلقّي أشعارنا نحو اللامبالاة في العمل، والسطحيّة في التفكير والفكر،
والاستسلام في السياسة، وعدم الاكتراث في مواجهة العدو. أي إن كان شعرنا على هذا
النحو؛ بحيث يخلُق ويُنتج هذه المواصفات والخصائص فهو بالتأكيد على خلاف الحِكمة
الشعرية التي تميَّز بها الشعر الفارسي على مرّ الزمن. ينبغي التنبُّه لهذه القضيّة
فهي قضيّة مهمّة.
محاولات العدو حَرْف الشعر عن أدواره
ينبغي أن يكون الشعر فعّالاً في مضمار الجدّ والسعي والانضباط في العمل،
والتعمُّق في الفكر، ومتانة الهويّة، والجهاد ضدّ العدو. انتبهوا أيّها الإخوة
والأخوات الأعزّاء إلى هذه النقطة وأنتم نخبة المجتمع، ففنّ الشعر يترشّح عادة عن
ذهن نخبويّ وروح نخبويّة، وأنتم طبعاً متنبهون إلى أنّهم [الأعداء] يسعون إلى جعْل
الفنّ في البلاد منحرفاً، أي إنّهم يرصُدون الميزانيّات لذلك وينفقون الأموال،
وتجتمع الهيئات المفكّرة فتخطّط من أجل أن يكون شِعرَنا منحرفاً. تماماً كما يفعلون
فيما يتعلّق بفنّ السينما عندنا، والمسرح، والرسم، وفيما يتعلّق بكلّ الفنون
وشُعَبِها المختلفة. أي إنّ هناك أعمالاً تجري وتُنجز هدُفها الانحراف. وكذا الحال
بالنسبة للشعر، إنّهم واقعاً يسعَون سعيَهم ويجدّون [في هذا الصدد]. إنّهم يعملون
على تضخيم حجم بعض المتهتّكين، وهذا ما أشاهده الآن في مجتمعنا. ثمّة أيادي تُضخِّم
الشاعر الفلاني البذىء الشعر والعبثيّ، وتقدّمه للمجتمع، وتعمل على الترويج له
وجعله شخصيّة [معروفة]، هذا والحال أنَّ أشعارهم هابطة وضعيفة حتى من الناحية
الفنيّة، أمَّا من حيث المحتوى فحدِّث ولا حرج. وهي من الناحية الفنيّة أيضاً ليست
أشعاراً لنقول إنّها «أشعار جيّدة ذات مضمون سيّىء»، لا، إنّما هي أشعارٌ سيّئة حتى
من الناحية الفنيّة، لكنّهم يُضخِّمونها.
مجتمعٌ يعيش الشعر في وجدانِه
نقطة أخرى على جانب كبير من الأهميّة تتعلّق بقضيّة الأغاني والأناشيد.
سبقَ أن طرحتُ[5] هذه القضية هنا وهي أن الأغاني والأناشيد شعبة لازمة من فنّ الشعر،
ولها تأثيرها الكبير؛ فالأغاني والأناشيد مؤثّرة حقّاً. ولقد لاحظنا في حالات كثيرة
أن شعراً ما إذا تردّد على لسان الشباب ومختلف الأفراد - من طلَبة جامعيّين أو
تلامذة مدارس وغيرهم - فإنّه يؤدّي إلى الحراك والحيوية والنشاط وتوجيه الطاقات.
والحقّ يُقال إنّنا في هذا المجال لا نزال نعاني نقصاً وقد قصَّرنا في هذا الجانب.
ففي مجال الأغاني والأناشيد يُمكن القول إنّ الأناشيد الجيّدة قليلة.
المجتمع الإيراني يعيش الشعر في وجدانِه وهذه نقطة قوّة كبيرة. وكذلك المجتمع
العربي؛ فالعرب أيضاً هذا حالهم، هم أيضاً يأنَسون بالشعر كثيراً ويعيشونَهُ
بوجدانهم. لاحظوا في قضايا الثورة وأحداثها وفي سنواتها المختلفة، فالشعارات التي
غالباً ما كانت موزونة وذات طابع شعري كانت تنطلق من صميم قلب الحشود والجموع؛ أي
إنّه لم يكن أحد يعلم من الذي نظّم هذه الشعارات، لكن شخصاً أطلقها من قلب الحشود
ومالَت لها طباع الآخرين. ولأنّها شِعر، ولأنّها موزونة ومقفّاة في بعض الأحيان،
ردّدها الناس وأشاعوها ورفعوها. الشعر شائع كثيراً في أجواء حياتنا وهذه فرصة كبيرة
جداً. لقد سجّلتُ ملاحظة وأحببتُ أن أشير إليها. قرأت في أحد إعلانات مجالس الفاتحة
التي تَرِد في بعض الصحف بيتاً من الشعر، إذ ينشر البعض أبياتاً من الشعر ينشدّ
انتباه الإنسان بشكل تلقائيّ إليها؛ ولاحظتُ أنّ طبيعة شعبنا هي حقاً طبيعة شاعريّة.
ولحنُ هذا البيت شبيه بأشعار «بيدل» لكنّني لا أعلم لمن هذا الشعر:
وقعت في مئة فخٍ وخلّصت نفسي من الأقفاص
فلم أجد سبيلا للحرية غير جناحي العدم[6]
كم هو جميل! لم أجد سبيلا للحرية غير جناحَي العدم. هذه هي روحيّة وطبيعة شعبنا.
حتى في إعلانات مجالس الفاتحة ترَوْن أنّهم يعثرون على أشعار بهذا الجمال ويدرجونها.
وأنتم طبعاً تستخدمون الحواسيب وما شاكل وتستطيعون أن تجدوا الشاعر [صاحب هذا البيت]،
لكنّني لم أعلم من هو الشاعر بَيْد أنّ اللغة تشبه لغة «بيدل». ينبغي الاستفادة من
هذه الفرصة ومن هذا الإقبال والرغبة الموجودة في مجتمعنا نحو الشعر، وتوفير
المفاهيم التي يحتاجها الناس، أو المناهج العملية التي يحتاجون معرفتها، من خلال
الشعر.
نتمنّى لكم التوفيق جميعاً إن شاء الله، ونرجو أن توفّقوا للسّيْر على هذا الصراط
أعواماً مديدة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في بداية هذا اللقاء ألقى عددٌ من الشعراء أشعارهم.
[2] البيت لأبي الطيب المتنبي.
[3] للشاعر توبة بن الحُمير.
[4] كلمة الإمام الخامنئي في لقائه الطلَبة الجامعيّين بتاريخ 28/05/2018 م.
[5] كلمة الإمام الخامنئي في لقائه الشعراء بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الحسن
المجتبى (ع) بتاريخ 20/06/2016 م.
[6] ترجمة أحد الأبيات الشعريّة للشاعر الإيراني بيدل دهلوي.