بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿إن
الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى * وما لهم به من علم إن
يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا * فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم
يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو
أعلم بمن اهتدى﴾[1]
إن الظن لا يغني من الحق شيئا: هذه الآيات تبحث موضوع نفي عقائد المشركين. فتقول
أولها: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى! أجل، إن هذا
الكلام القبيح والمخجل إنما يصدر من أناس لا يعتقدون بيوم الحساب ولا بجزاء أعمالهم،
فلو كانوا يعتقدون بالآخرة لما تجاسروا فقالوا مثل هذا الكلام، وأي كلام؟! كلام ليس
لهم فيه أدنى دليل.. بل الدلائل العقلية تبرهن على أنه ليس لله من ولد، وليس
الملائكة إناثا، ولا هم بنات الله كذلك! والتعبير ب"تسمية الأنثى" إشارة إلى ما
نوهنا عنه في الآيات المتقدمة، وهو أن مثل هذا الكلام لا معنى له. وإن هذه الأسماء
لا مسميات لها، وبتعبير آخر إنها لا تعدو حدود التسمية، ولا واقع لها أبدا.
ثم يتناول القرآن واحدا من الأدلة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول معقبا: وما
لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. فالإنسان الهادف
والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية، ولا ينسب أية نسبة لأحد دونما دليل..
فالتعويل عن الظن والتصور إنما هو من عمل الشيطان أو من يتصف بالشيطانية.. وقبول
الخرافات والأشياء الموهومة دليل الانحراف وعدم العقل!
وواضح أن كلمة "الظن" لها معنيان مختلفان، فتارة تطلق هذه الكلمة على الأوهام التي
لا أساس لها، وطبقا لتعبير الآيات آنفة الذكر تعني الخرافات والأوهام وما تهوى
الأنفس.. والمراد من هذه الكلمة في الآية هو هذا المعنى ذاته.
المعنى الآخر، الظن المعقول وهو ما يخطر في الذهن، ويكون مطابقا للواقع غالبا،
وعليه يكون مبنى العمل في اليوم - مرة أو أكثر - كشهادة الشهود في المحكمة وقول أهل
الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك، فلو أعرضنا عن مثل هذه الأمور وعولنا على اليقين
القطعي لاضطربت الحياة واختل نظامها. ولا شك أن هذا القسم من الظن غير داخل في هذه
الآيات، وهناك شواهد كثيرة في الآيات ذاتها على ذلك..
وفي الحقيقة أن القسم الثاني نوع من العلم العرفي لا الظن، فبناء على هذا لا يصح
الاستدلال بالآية إن الظن لا يغني من الحق شيئا وأمثالها على نفي حجية الظن بشكل
مطلق. وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة.. وهي أن الظن في اصطلاح
الفقهاء والأصوليين معناه "الاعتقاد الراجح"، إلا أنه في اللغة أوسع مفهوما، فيشمل
حتى الوهم والاحتمالات الضعيفة، ومن هذا القبيل ظن عبدة الأوثان - إذ كان خرافة
تظهر في أذهانهم بشكل احتمال ضعيف. ثم ينهض هوى النفس فيزين ذلك الاحتمال، ويهمل
الاحتمال الآخر الذي هو أقوى من هذا الاحتمال، ويصير الاحتمال الضعيف اعتقادا راسخا
مع أنه لا أساس له أبدا. ومن أجل أن يبين القرآن أن هؤلاء الجماعة ليسوا أهلا
للاستدلال والمنطق الصحيح، وقد ألهاهم حب الدنيا عن ذكر الله وجرهم إلى الوحل في
خرافاتهم وأوهامهم يضيف قائلا: فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
والمراد من (ذكرنا) في اعتقاد أغلب المفسرين هو "القرآن"، وقد يفسر بأنه الدلائل
المنطقية والعقلية التي توصل الإنسان إلى الله، كما احتملوا أن يكون المراد هو ذكر
الله الذي يقابل الغفلة عند الإنسان.
إلا أن الظاهر أن هذا التعبير ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كل توجه نحو الله، سواء
أكان ذلك عن طريق القرآن، أو عن طريق العقل، أو عن طريق السنة، أو تذكر القيامة وما
إلى ذلك! ويستفاد من هذه الآية - ضمنا - أن هناك علاقة بين الغفلة عن ذكر الله
والإقبال على الماديات، وبين زخرف الدنيا وزبرجها وأن بينهما تأثيرا متلازما!
فالغفلة عن ذكر الله تسوق الإنسان نحو عبادة الدنيا، كما أن عبادة الدنيا تصرف
الإنسان عن ذكر الله، فيكون غافلا عنه - وهما جميعا يقترنان مع هوى النفس، وبالطبع
فإن الخرافات التي تنسجم مع هوى النفس تتزين في نظر الإنسان وتتبدل تدريجا إلى
اعتقاد راسخ!
وربما لا حاجة إلى التذكير أن الأمر بالإعراض عن هذه الفئة (أهل الدنيا) لا ينافي
تبليغ الرسالة الذي هو وظيفة النبي الأساسية، لأن التبليغ والإنذار والبشارة كلها
لا تكون إلا في موارد احتمال التأثير، فحيث يعلم ويتيقن عدم التأثير فلا يصح هدر
الطاقات، وينبغي الإعراض بعد إتمام الحجة. كما ينبغي الإشارة إلى أن الأمر بالإعراض
عمن تولى عن ذكر الله، ليس مختصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو شامل
لجميع الدعاة في طريق الحق، ليصرفوا طاقاتهم الكريمة في ما يحتمل تأثيرها فيه، أما
عبدة الدنيا وموتى القلوب الذين لا أمل في هدايتهم فينبغي - بعد إتمام الحجة عليهم
- الإعراض عنهم ليحكم الله حكمه فيهم!
وفي آخر آية من الآيات محل البحث يثبت القرآن انحطاط أفكار هذه الفئة فيقول مضيفا:
ذلك مبلغهم من العلم. أجل، إن أوج أفكارهم منته إلى هذا الحد وهو اسطورتهم أن
الملائكة بنات الله!! - وخبطهم في الخرافات.. وهذه آخر نقطة تبلغ إليه همتهم، إذ
نسوا الله وأقبلوا على الدنيا واستعاضوا عن جميع شرفهم ووجودهم بالدينار والدرهم!
وهذه الجملة ذلك مبلغهم من العلم يمكن أن تكون إشارة إلى خرافاتهم كعبادة الأصنام
وجعلهم الملائكة بنات الله: أي أن منتهى علمهم هو هذه الأوهام! أو أنها إشارة إلى
حب الدنيا والأسر في قبضة الماديات، أي أن؟ منتهى إدراكهم هو قناعتهم بالأكل والشرب
والنوم والمتاع الفاني في هذه الدنيا وزبرجها وزخرفها الخ. وقد جاء في الدعاء
المعروف في أعمال شعبان المنقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
"ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا"[2]. وتختتم الآية
بالقول: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ختام الآية يشير إلى
هذه الحقيقة، وهي أن الله يعرف الضالين جيدا كما يعرف المهتدين أيضا، فيصب غضبه على
الضالين ويسبغ لطفه على المهتدين، ويجازي كلا بعمله يوم القيامة.
رأس مال عبدة الدنيا:
الطريف أن الآيات الآنفة في الوقت الذي تنسب العلم لعبدة الدنيا، إلا أنها
تعدهم ضالين، وهذا يدل على أن العلوم التي لا تهدف إلى شئ سوى الماديات فمن وجهة
نظر القرآن ليست علوما، بل هي الضلالة بعينها. ومن الغريب أن كل هذه الشقوة والحروب
وسفك الدماء والظلم والتجاوز والفساد والتلوث ناشئ من علوم الضلال هذه - ومن الذين
منتهى ما توصلت إليه علومهم حب الدنيا والحياة الفانية، ولا يتسع أفق متطلباتهم
لأكثر من متطلبات الحيوان. أجل، إن علوم "التقنية" والمسائل الحديثة إذا لم تكن
تسعى لأهداف أسمى من الماديات، فهي الجهل بعينه، وإذا لم تؤد إلى نور الإيمان فهي
الضلال!
* الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – بتصرف يسير
[1] - سورة النجم، من 27
إلى 30.
[2] - جاء هذا الدعاء من دون الإشارة إلى أنه من أعمال شهر شعبان في مجمع البيان
وفي تفاسير أخرى ذيل الآية محل البحث.