أيّها الأحبّة، إنّ للابتلاء في ثقافتنا الدينيّة حِكماً متعدّدة، ولا يمكن للمرء أن ينفي ما يجري معه في هذه الحياة الدنيا، سواء على صعيده الفرديّ أم المجتمعيّ، عمّا يقدره الله -تعالى- ويقضيه؛ ذلك أنّ كلّ شيء بيده -سبحانه-.
ولا بدّ هنا من ذكر بعض النقاط الأساسيّة حول البلاء:
1. الابتلاء سنّة إلهيّة عامّة: فهي لا تقتصر على فئة من الناس دون أخرى، فالجميع مشمولون بهذه السنّة الإلهيّة، الطالح من الناس والصالح، قال -تعالى-: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾[1].
2. استبطان البلاء للنعم: إنّ البلاء يستبطن النعم، وإن كان في ظاهره سوء ونقمة، عن الإمام العسكريّ (عليه السلام): «ما من بليّة إلّا ولله فيها نعمة تحيط بها»[2].
3. نفس البلاء نعمة: قد يتساءل بعض الناس: كيف يكون البلاء نعمة، وفيه البؤس والشدّة والحزن؟!
الجواب: إنّ ذلك يكون صحيحاً فيما لو نظرنا إلى البلاء نظرة جزئيّة محدودة، ولم ننظر إلى تبعاته الحسنة، سواء أكان على صعيد الدنيا أم الآخرة، وأعظم تلك التبعات الحسنة، هو في الصبر عليه.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدّوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة؛ وذلك أن الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء»[3].
4. تعدّد أشكال البلاء: قال -سبحانه-: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[4].
من حِكَم البلاء
أوّلاً: تمييز الخبيث من الطيب
قال -تعالى-: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾[5].
ولكن لماذا؟
قال -سبحانه-: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيم﴾[6].
عن الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيرته إلى كربلاء الشهادة: «إنّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون»[7].
ثانياً: التنبيه من الغفلة
إنّ من الابتلاءات ما يكون في معرض توجيه الإنسان إلى الطريق الصحيح، وأن يتنبّه من الغفلة التي قد تصيبه أحياناً، وتجعله ينحرف عن ذاك الطريق[8].
قال -سبحانه-: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[9].
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد خرج للاستسقاء وهو يقول: «إِنَّ اللَّه يَبْتَلِي عِبَادَه عِنْدَ الأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وحَبْسِ الْبَرَكَاتِ وإِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ؛ لِيَتُوبَ تَائِبٌ، ويُقْلِعَ مُقْلِعٌ، ويَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ، ويَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ...»[10].
ثالثاً: الإعداد والتأهيل
إنّ البلاء وإن كان في ظاهره شدّة وبؤس، إلّا أنه يستبطن ما فيه خير للإنسان، ومن ذلك أنّه يجعل شخصيّته أشدّ قوّة ومناعة.
قال -سبحانه-: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[11].
ولنا في قصّة النبيّ يوسف (عليه السلام) عبرة في ذلك، وبأنّ عاقبة الابتلاء في بعض الأحيان تكون نتيجتها نتيجة خير وارتقاء، ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين﴾[12].
وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «ألا وإنّ الشجرة البرّيّة أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً»[13].
رابعاً: تمحيص البلاء للذنوب
عن الإمام عليّ (عليه السلام):» الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم؛ لتسلم بها طاعاتهم، ويستحقّوا عليها ثوابها»[14].
وعنه (عليه السلام): «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله -عزّ وجلّ-؟ حدّثنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، والله -عزّ وجلّ- أكرم من أن يثنّي عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه في الدنيا، فالله -تبارك وتعالى- أحلم من أن يعود في عفوه»[15].
[1] سورة البقرة، الآية 155.
[2] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص489.
[3] المصدر نفسه، ص378.
[4] سورة البقرة، الآية 155.
[5] سورة آل عمران، الآية 179.
[6] سورة النساء، الآية 165.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص383.
[8] يُقال: إنّ المهندسين المدنيّين، يعمدون إلى جعل الالتواءات في الطرقات السريعة، وأن لا تكون مستقيمة بشكل كامل؛ ليبقى السائق متنبّهاً لا يعتريه النعاس.
[9] سورة الأعراف، الآية 130.
[10] السيد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، ص199.
[11] سورة البقرة، الآية 216.
[12] سورة يوسف، الآية 56.
[13] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، ج3، ص 72.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج64، ص 232.
[15] المصدر نفسه، ج78، ص 188.