الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾[1].
أيّها الأحبّة،
أيّام قليلة تفصلنا عن أعظم الليالي وأشرفها، ليلةٌ أجزل فيها -تعالى- الخير والبركة، وفتح باب توبته وغفرانه، ورسمها لتكون ليلة تقديرٍ لأمور عباده، ثمّ دعانا -تعالى- وأرشدنا إلى ذلك الفضل العميم، وكذلك النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومون (عليهم السلام)، أرشدونا إلى أهمّيّة هذه الليلة وكيفيّة إحيائها، سواءٌ أكان على الصعيد المعنويّ أم الشكليّ.
ولم يكتفِ أهل العصمة بالقول، فهم لا يقولون ما لا يفعلون، بل ترجموا ذلك في سيرتهم وتعاملهم مع ليلة القدر، ما يُنبئ بأهمّيّتها العظمى، فقد كانت السيّدة فاطمة (عليها السلام) لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة[2]، وتداويهم بقلّة الطعام، وتتأهّب لها من النهار، وتقول: «محرومٌ من حُرِم خيرها»[3].
وقد ورد أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) كان مريضاً مدنفاً، ومع ذلك أمر فأُخرج إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فكان فيه حتّى أصبح ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان[4].
فضل ليلة القدر
ورد العديد من الأحاديث المطهّرة التي تُظهر فضل ليلة القدر وعظمتها، منها:
عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «هذا شهر رمضان، شهرٌ مباركٌ افترض الله صيامه، تُفتَح فيه أبواب الجنان، وتُصفَد فيه الشياطين، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، فمن حُرمها فقد حُرم، (يردّد ذلك ثلاث مرّات)»[5].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «يأمر الله ملكاً ينادي في كلّ يومٍ من شهر رمضان في الهواء: أبشروا عبادي! فقد وهبتُ لكم ذنوبكم السالفة، وشفّعت بعضكم في بعض في ليلة القدر، إلّا مَن أفطر على مُسكرٍ أو حقد على أخيه المسلم»[6].
إذاً، هي ليلة تقدير وغفران، شريطة أن يغتنمها المكلّف كما ينبغي، من حيث الإحياء والتوجّه.
وفي حديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) يشير إلى حقيقة إدراك ليلة القدر، وأنّ ذلك يكون من خلال مقدّمات، وهي أن يلتزم المرء بطاعة الله خلال هذا الشهر المبارك، فليس الأمر دفعيّاً فجائيّاً يختصّ بالليلة نفسها، يقول (صلّى الله عليه وآله): «اعلموا أيّها الناس، أنّه من ورد عليه شهر رمضان وهو صحيحٌ سويٌّ، فصام نهاره، وقام ورداً من ليله، وواظب على صلواته، وهجر إلى جمعته، وغدا إلى عيده، فقد أدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الربّ»، قال الإمام الصادق (عليه السلام) في ذلك: «فاز والله بجوائزَ ليست كجوائز العباد»[7].
ما المقصود بالقدر؟
فُسّر «القدر» في قوله تعالى: ﴿لَيْلَةِ الْقَدْر﴾ بأكثر من تفسير، لكنّ أقرب التفاسير إلى الصواب أنّ القدر بمعنى التقدير أو الهندسة، ففي حديث أبي الحسن (عليه السلام) ليونس مولى عليّ بن يقطين: «أوتدري ما قدر؟»، قال: لا، قال: «هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء»[8]، فليلة القدر هي ليلة التقدير، إذ تُقدّر فيها حوادث السنة بأجمعها إلى العام المقبل في كلّ ما يتّصل بالإنسان من حياة أو موت، من صحّة أو مرض، من غنى أو فقر... ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَ﴾[9].
ورُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه سُئل عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، قال: «نعم، هي ليلة القدر، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم يُنزَّل القرآن إلّا في ليلة القدر، قال الله عزّ وجلّ: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل؛ خير وشرّ وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق، فما قُدّر في تلك الليلة وقُضي فهو المحتوم، ولله -عزّ وجلّ- فيه المشيئة»[10].
وعن عبد الله بن مسكان، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا كان ليلة القدر نزلَتِ الملائكة والرُّوح والكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله -تعالى- في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدّم شيئاً أو يؤخّره أو يُنقص شيئاً أو يزيد، أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثمّ أثبت الذي أراد»، قلت: وكلُّ شيءٍ هو عند الله مثبتٌ في كتاب؟ قال: «نعم»، قلت: فأيّ شيء يكون بعده؟ قال: «سبحان الله! ثمّ يُحدِث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى»[11].
ارتباط ليلة القدر بصاحب الزمان
لا ينبغي أن نُغفِل مسألة ارتباط ليلة القدر بصاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، وهو حجّة الله في أرضه ومعدن علمه، إذ ورد أنّ ما يُقدّر للعباد يكون الإمام (عليه السلام) على علم به ودراية، عن داوود بن فرقد قال: سألت الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر﴾، قال: «ينزل فيها ما يكون من السنة من موت أو مولود»، قلت له: إلى من؟ فقال: «إلى من عسى أن يكون؟ إنّ الناس في تلك الليلة في صلاة ودعاء ومسألة، وصاحب هذا الأمر في شغل، تنزل الملائكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها من كلّ أمر، سلام هي له إلى أن يطلع الفجر»[12].
عن ابن بكير، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ ليلة القدر يُكتب ما يكون منها في السنة إلى مثلها من خير أو شرّ أو موت أو حياة أو مطر، ويُكتب فيها وفد الحاجّ، ثمّ يُفضى ذلك إلى أهل الأرض»، فقلت: إلى مَن مِن أهل الأرض؟ فقال: «إلى من ترى؟!»[13].
أيّ ليلة هي؟
أيّ ليلة هي ليلة القدر؟ أليست الليلة ليلة واحدة؟ وإذا كانت ليلة واحدة، فلماذا نحيي ليالٍ ثلاث؟ تعدّدت الروايات الحاكية عن تعيين ليلة القدر المباركة، وفي ذلك أربع طوائف منها، وهي:
1. ما ينصّ على أنّها في العشر الأواخر، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «سُئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن ليلة القدر؟ فقال: التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان»[14].
2. وبعضها الآخر أكثر تحديداً، إذ تذكر أنّها منحصرة في ليالٍ ثلاث، وهي الليلة التاسعة عشر، أو الواحدة والعشرون، أو الثالثة والعشرون، فقد سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن ليلة القدر؟ فقال: «اطلبها في تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين»[15].
3. وبعض الروايات تحصرها في ليلتين، قيل للإمام الصادق (عليه السلام): أخبرني عن ليلة القدر؟ فقال: «هي ليلة إحدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين»[16].
4. وبعض الروايات تذهب إلى تعيينها في ليلة واحدة، وهي الثالثة والعشرون، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سأله سائل عن ليلة القدر قائلاً: فإن أخذت إنساناً الفترةُ -النعاس- أو علّة، ما المعتمد عليه من ذلك؟ فقال (عليه السلام): «ثلاث وعشرين»[17].
وعن الشيخ الصدوق: «اتّفق مشائخنا على أنّها ليلة ثلاث وعشرين»، وليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهنيّ، ففي الحديث عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: «ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهنيّ»[18]، وهو أنّ الجهنيّ[19] قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنَّ منزلي ناءٍ عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين[20].
وثمّة تفسير آخر لتعدّد الليالي يشير إلى تدرّج التقدير، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) «التقدير في تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين»[21].
ما سرّ الاختلاف في تحديد ليلة القدر؟
يجيب أمير المؤمنين (عليه السلام)، قائلاً: «ما أخلو من أن أكون أعلمها فأستر علمها، ولستُ أشكّ أنّ الله إنّما يسترها عنكم نظراً لكم؛ لأنكم لو أعلمكموها عملتم فيها وتركتم غيرها، وأرجو أن لا تُخطِئكم إن شاء الله!»[22]، فهذا الحديث يشير إلى أنّ إخفاء الليلة كان أمراً متعمّداً؛ وذلك كي يعمد المؤمنون إلى الاستفادة القصوى من عطاءات الله -تعالى- في مثل هذه الليالي المباركة.
ولادة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
أيّها الاحبّة،
في الخامس عشر من شهر رمضان المبارك، كانت ولادة الإمام الثاني من الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله).
هو الإمام الذي عاش مع الفقراء والمساكين، وتحسّس معاناتهم وحاجاتهم، وقاسم الله ماله ثلاث مرّات في حياته. وقد رُوي عنه (عليه السلام) أنّه مرّ على فقراء قد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا له: هلمّ يابن بنت رسول الله إلى الغداء، فنزل وجعل يأكل معهم، ثمّ دعاهم إلى ضيافته في منزله وأطعمهم وكساهم.
فسلامٌ الله عليه حين وُلد وحين استشهد وحين يُبعث حيّاً.
[1] سورة القدر، الآيات 1-4.
[2] فمن إحيائها البقاء على يقظة حتّى طلوع الفجر.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج94، ص10.
[4] المصدر نفسه، ج94، ص4.
[5] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص74.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج94، ص5.
[7] المصدر نفسه، ج94، ص18.
[8] المصدر نفسه، ج5، ص122.
[9] سورة الدخان، الآيتان 4 و5.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص157.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج4، ص99.
[12] المصدر نفسه، ج94، ص22.
[13] المصدر نفسه، ج94، ص22.
[14] الإحسائيّ، عوالي اللئالي، ج1، ص132.
[15] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج10، ص361.
[16] المصدر نفسه، ج10، ص360.
[17] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص160.
[18] المصدر نفسه، ج2، ص161.
[19] رجل ينتسب إلى قبيلة جهينة.
[20] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص161.
[21] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص159.
[22] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج94، ص5.