الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[1].
أيّها الأحبّة،
إنّ من المسائل البارزة التي تواجه المرء في حياته، والتي لا بدّ من أن يكون على بيّنة منها، هي مسألة تشخيص التكليف إزاء أيّ حادثة أو مسألة، يحتاج فيها إلى الرأي الشرعيّ.
ثمّة مسائل شرعيّة تطرأ على المكلّف، وهي مسائل فرديّة، بيّنها فقهاؤنا وعلماؤنا في طيّات كتبهم الفقهيّة، بياناً عامّاً وكلّيّاً، إلّا أنّهم لم يبيّنوا مصاديقها الخارجيّة، لصعوبة ذلك أو استحالته؛ إذ إنّها أمورٌ جزئيّة، وإنّ واجبهم في الأساس بيان الحكم الكلّيّ للمسائل الشرعيّة، أمّا تشخيص موضوعاتها فترجع إلى المكلّف.
مثال ذلك: يُفتي فقهاؤنا طبقاً للأدلّة الشرعيّة المعمول بها، بأنّ الغناء محرّم، ويقومون بتعريف الغناء تعريفاً لغويّاً واصطلاحيّاً، إلّا أنّهم لا يقولون هذا الصوت المحدّد المعيّن هو من الغناء المحرّم أو لا، إنّما يُرجِعون ذلك إلى المكلّف نفسه.
وهذا واضح في الكثير من المسائل الشرعيّة الجزئيّة التي تعترض حياة الناس اليوميّة.
هذا الأمر يجري في جزئيّات الأمور والمسائل الشرعيّة، أمّا ما يرتبط بالقضايا الكلّيّة والمصيريّة، فلا بدّ من الرجوع فيها إلى الأعلم والأكثر قدرة على تشخيص التكليف فيها، خاصّة ما يتعلّق بمصير الأمّة والمجتمع، وهو المتمثّل في عصر الغيبة بالوليّ الفقيه، ومَن يوكلهم ببعض المهام في أمصار الأمّة وبقاعها.
أهل البيت (عليهم السلام) وتشخيص التكليف
نجد في حياة المعصومين (عليهم السلام) شواهد كثيرة تؤكّد ضرورة الرجوع في الأمور المصيريّة إلى أولي الأمر، إذ إنّهم الأقدر على تشخيص التكليف، وهذا ما نشهده في حركتهم (عليهم السلام) ومواقفهم.
على سبيل المثال لا الحصر، الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) قام في نهاية مواجهته لمعاوية بن أبي سفيان بالصلح، وذلك بعد قراءته للواقع والظروف المحيطة به، فبعد أن جهّز جيشاً للمواجهة، تبدّل الحال، وشخّص تكليفه وفقاً للمتغيّرات، بأنّه لا بدّ من إيقاع الصلح مع معاوية.
إنّ هذا الموقف إنّما يتّخذه الأعلم بحال الأمّة وظروفها؛ ولذلك فإنّ الأصوات التي عارضت موقف الإمام (عليه السلام)، إنّما كانت عن جهلٍ بما كان يعلم به، إلى أن فقه الكثيرون -ولو بعد حين- سرّ موقف الإمام في الصلح، ورأوا أنّ ما قام به كان الأصلح للأمّة.
وهكذا الحال بالنسبة للإمام الحسين (عليه السلام)، فقد اتّخذ موقف المواجهة على الرغم من عدم التوازن في القوّة العسكريّة، إلّا أنّه (عليه السلام) كان ينظر بعينٍ استراتيجيّة غير سطحيّة، حتّى رأى أنّ الأولى هو المواجهة، وإن كانت نتيجتها الخسارة العسكريّة، وقد كان لذلك أبعادٌ ثقافيّة وعقديّة وفكريّة، ترتبط بمسيرة الرسالة ومبادئها. وهكذا كان في الواقع، إذ إنّ تردّدات ثورته المباركة ما زالت مؤثرّة في الأمّة على مدى الأزمنة ومختلف الأمصار.
وفي الوقت الذي كان بعضهم ينصح الإمام بعدم مواجهة يزيد وأعوانه، أو يخذله بعدم ملازمته في حركته المباركة تلك، كان عليّ الأكبر (عليه السلام)، الشابّ العشرينيّ، يقول لأبيه: «يا أبه، لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحقّ؟»، قال (عليه السلام): «بلى، والذي إليه المرجع والمعاد!»، قال: «فإذاً، لا نبالي أن نموت محقّين!»[2].
هكذا كان موقف هذا الشابّ، فقد أولى مصيره إلى من هو أعلم وأدرى وأحرص على مصيره ومصير أمّته، وهو الإمام (عليه السلام)، قائد الأمّة ووليّها.
وكذلك ما كان من مواقف الأئمّة (عليهم السلام) الآخرين، كموقف الإمام الصادق (عليه السلام)، فقد اتّخذ موقف المواجهة السياسيّة والثقافيّة، بوجه السلطة الحاكمة، حتّى كان لذلك آثار إيجابيّة عظيمة، فلو كان -على فرض ذلك- قد اتّخذ موقف المواجهة العلنيّة والمسلّحة، لكانت الآثار سيّئة وسلبيّة للغاية، نسبة إلى الظروف التي كانت محيطة به.
وكان قد اعترضت حياة الإمام الصادق (عليه السلام) أحداث دقيقة وخطيرة، تمثّلت في أنّ مجموعات ممّن كانوا حوله، لم يكن لديهم الدراية الكافية في حقائق الأمور، بل كان بعضهم يتعاملون معه وكأنّه رجلٌ عاديّ، حتّى قام أحد أقربائه بالتصدّي للإمامة، وعاونه على ذلك آخرون!
التسرّع في اتّخاذ الموقف
يعمد بعضهم عند كلّ حادثة ترتبط بالمجتمع أو الأمّة إلى التعبير عن موقفه، وهذا حقّ لأيّ إنسان، لا يمكن لأحد منعه عنه، ولكن لا بدّ من أن يكون هذا الموقف ناشئاً عن علم ودراية، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما من حركةٍ، إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»[3]، فلا ينبغي أن يكون عشوائيّاً ومتسرّعاً، وفي الوقت عينه لا ينبغي اتّهام أهل الدراية وإدارة شؤون الأمّة بالتقصير إزاء ما يتّخذونه من قرارات مصيريّة، من دون معرفة الحيثيّات التي ألجأتهم إلى اتّخاذ مثل هذه القرارات.
التشخيص في الأمور المصيريّة
فالتشخيص في الأمور المصيريّة إنّما هو من مهمّة الأكفأ، والأكثر قدرة على إدارة شؤون الأمّة، والأعلم بمصالحها، ففي عصر المعصوم (عليه السلام)، يكون الأمر موكولاً إلى المعصوم نفسه، أمّا في زمن غيبته، فيرجع الأمر إلى نائبه بالحقّ، الذي تجتمع فيه شرائط القيادة الحكيمة والعلم والدراية، ألا وهو الوليّ الفقيه، فقد ورد في التوقيع بخطّ مولانا صاحب الأمر (عليه السلام): «... وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»[4].
عيد التحرير، شاهد على ضرورة الالتزام بقرارات أهل العلم والقيادة
أيّها الأحبّة،
إنّ عيد التحرير الأوّل في ذكرى الانتصار الكبير الذي حقّقته المقاومة الإسلاميّة في لبنان بوجه العدوّ الإسرائيليّ الغاشم، والذي يأتي في الخامس والعشرين من شهر أيّار من كلّ سنة، شاهد حيّ على أنّ ذلك كان نتيجة الوعي والالتزام بقرارات أهل العلم والدراية ومواقفهم، إذ التزم المجاهدون وبيئة المقاومة بما كانت تراه القيادة مناسباً.
ففي الوقت الذي كان بعضهم يرى أنّ مقاومة العدوّ الصهيونيّ لا بدّ من أن تكون مقاومة مدنيّة لا عسكريّة، كان الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) يرى -هو ومن بعده ممّن هم من مدرسته المباركة- أنّ المواجهة مع هذا العدوّ لا بدّ من أن تكون عسكريّة وثقافيّة في آنٍ معاً، ولا ينبغي اقتصارها على المواجهة المدنيّة.
وبالفعل، فقد أظهرت هذه النظرة الثاقبة المبنيّة على قراءة الأمور بحنكة ودراية، أنّ هذا العدو لا تنفع معه إلّا لغة القوّة، ولولا ذلك لكان الآن ما زال يعيث في لبنان فساداً وظلماً. وعليه، فإنّ تشخيص أولي الأمر كان الأوفق والأصلح للبنان وشعبه.
في المقابل، لو أنّ الأمّة الإسلاميّة والعربيّة كلّها حملت هذا النهج في المواجهة مع هذا العدوّ، لما بقي في الأرض المحتلّة طويلاً.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ، أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيه، وتَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيه، وأَصَابَ سَبِيلَ السَّلَامَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَه، وطَاعَةِ هَادٍ أَمَرَه»[5].
[1] سورة النساء، الآية 59.
[2] الفتّال النيسابوريّ، روضة الواعظين، ص180.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج74، ص267.
[4] الشيخ الطوسيّ، الغيبة، ص291.
[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص331، الخطبة 214.