باسمه تعالى
مقدمة:
مما لا شك فيه أن حادثة عاشوراء واحدة من الحوادث التاريخية المنقطعة النظير والتي يمكن دراستها من جوانب متعددة. إن هذه الحادثة التي وقعت في زمان قصير بوجود أشخاص محدودين، وما زالت تعتبر أعظم ثورة حفرت اسمها في التاريخ البشري مما أدهش كافة المحللين.
وبما لهذه الحادثة من أهمية خاصة، يجب النظر إليها من هذه الزاوية الهامة أيضاً والبحث عن فائدتها العملية للبشر. ومن هنا يقع الكلام حول عنوان "كربلاء والنماذج السلوكية". يبحث الإنسان ومنذ اللحظة الأولى لولادته عن نماذج تكون قدوة له ليطابق بين ذاته وتلك النماذج. والسبب في ذلك أن البحث عن القدوة والاقتداء بها مسألة تنبع من الفطرة الباحثة عن الكمال والجمال.
فالإنسان يرغب في حياته باختيار الأفضل، والوصول إلى الكمالات، مع العلم أن المجال واسع للحديث عن النماذج الواقعية ومواصفاتها وكيف يمكن الوصول إليها. ومع ذلك فإن المسألة الهامة التي يجب ذكرها حول القدوة، هي الاتباع العملي. يقول الإمام السجاد عليه السلام: "إن أبغض الناس إلى الله عزَّ وجلَّ من يقتدي بسنة إمام ولا يقتدي بأعماله".1
ويتحدث القرآن الكريم راسماً الصورة الواقعية للأشخاص أصحاب الحق وأصحاب الباطل ويبين خصائص ومعايير النماذج العينية. يتحدث القرآن الكريم حول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله موضحاً أنه القدوة الحسنة للأشخاص الذين يرغبون في التقرب إلى الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرً﴾.2
وبالطبع لم يحصر القرآن الكريم الأسوة الحسنة بالوجود المبارك لرسول الله صلى الله عليه وآله الذي هو أشرف المخلوقات. بل تناول أشخاصاً آخرين أيضاً وبالأخص أولئك الذين تحركوا في أصعب الظروف نحو شاطىء السعادة فكانوا قدوة للمؤمنين. ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ...﴾.3
في الجهة المقابلة هناك العديد من النماذج السلبية لأشخاص اختاروا الكفر على الرغم من وجود كافة أسباب الإيمان: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا...﴾.4
* دائرة معارف القدوة الصالحة:
لعل من أبرز الخصائص التي امتازت بها عاشوراء، تقديم أعلى مراتب القدوة. وتبدو هذه الخاصية بارزة للعيان حيث احتار فيها المسلمون وغير المسلمين. يقول الزعيم الهندي المشهور المهاتماغانذي: "طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام العظيم، وتأملت ملياً في صفحات كربلاء وأدركت أن الهند إذا رغبت في أن تكون بلداً منتصراً، يجب عليها أن تتبع طريقة الحسين".5
ويقول المسيحي أنطوان باران: "لو كان الحسين لنا، لرفعنا له في كل مكان من الأرض لواءً ولوضعنا له في كل قرية منبراً ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين".6
ويقول الكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي: "الحسين هو شهيد طريق الدين والحرية، ولا ينبغي أن تفتخر الشيعة باسم الحسين بل يجب أن يفتخر به كافة أحرار العالم".7
وعلى هذا الأساس فليس من الجزاف القول إن عاشوراء دائرة معارف اجتمعت فيه أفكار وأعمال جبهتي الحق والباطل.
* الإمام الحسين عليه السلام القدوة:
تقودنا دراسة واقعة كربلاء إلى أن الإمام الحسين عليه السلام خطط لحركة تحمل النصر ليس في زمان ومكان خاصّين بل على امتداد التاريخ: "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء". ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة بوضوح في كلام وسلوك الإمام الحسين عليه السلام، لأن الإمام عليه السلام قد وضع الحق والباطل مقابل بعضهما في ساحة المعركة، وهذا يعني أن الإمام الحسين عليه السلام لم يقابل يزيد فقط في تلك الساحة. ومن هنا نراه عليه السلام يستعمل عبارة "مثل" في خطاباته، يقول سلام الله عليه مخاطباً الوليد بن عتبة: "إن مثلي لا يعطي بيعته سراً"8، "مثلي لا يبايع مثله"9. ويقول الإمام الحسين عليه السلام أيضاً في الإجابة على مروان بن الحكم: "إنا لله وإنا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد"10.
تشير هذه العبارات إلى أن الإمام الحسين عليه السلام كان يخطط لتقديم نموذج واقعي وحقيقي للقدوة، وهذا يعني أن المسألة ليست مواجهة لشخص يزيد بل تقديم نموذج صالح لكل زمان ومكان.
يتحدث الإمام عليه السلام أثناء الطريق وفي منطقة تعرف بـ"البيضة" مخاطباً أصحابه وموضحاً الأسوة الحسنة، ويقول: "فأنا الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله نفسي من أنفسكم وأهلي مع أهلكم ولكم فيَّ أسوة".11
وبما أن النماذح والقدوة على مستوى كربلاء وعاشوراء كانوا يختلفون من حيث الجنس والعمر والفكر، ولذلك نقسم تلك النماذج إلى قسمين: الإيجابية والسلبية، وندرس في كل مجموعة خصائص بعض الرجال والنساء من أعمار متعددة لنتمكن وبسهولة من التعرف على أمثالها في حياتنا العملية.
الحسين بن علي عليهما السلام قدوة الأمراء، هو الإمام المعصوم الثالث، تولى إمامة وقيادة الأمة الإسلامية بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام، إلا أن موت معاوية أدى إلى وجود ظروف خاصة سيطرت على المجتمع الإسلامي حيث بدأ الاستهزاء بالقيم الإلهية بشكل علني وهذا يعني أن الإمام عليه السلام أصبح يعيش موقعاً جديداً.
أما يزيد الذي تولى الخلافة بعد أبيه فكان يعتبر أن الإمام الحسين عليه السلام هو المانع والعقبة الوحيدة التي تقف أمامه، لذلك كان على استعداد لقتل الإمام وقد كتب إلى والي المدينة: "خذ البيعة من الحسين... ومن أبي فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه".12
في الجهة المقابلة لم يكن الإمام الحسين عليه السلام ذاك الشخص الذي يذعن لبيعة الذل لأن الخلافة محرمة على آل أبي سفيان وقد نقل عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قوله: "ولقد سمعت جدي رسول الله يقول: الخلافة محرمة على آل أبي سفيان"13 والإمام الحسين عليه السلام لم يهرب قط من تحمل مسؤوليته وقد عبر عن رأيه بأجمل العبارات وأكثرها حماساً عندما قال: "لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ منهم فرار العبيد". "لو لم يكن في الدنيا ملجأ ومأوى لما بايعت يزيد ابن معاوية"14. "فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما"15. "ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني (ركزني) بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة"16.
كان الإمام الحسين عليه السلام يدرك أن الشهادة أمر قطعي وأن يزيد لن يدعه وشأنه. لذلك يقول في الجواب على محمد بن الحنفية:"يا أخي! لو كنت في بطن صخرة، لاستخرجوني منها فيقتلوني".
وكان ذلك واضحاً للإمام عليه السلام حيث يقول في الجواب على أم سلمة: "يا أماه قد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين وأطفالي مذبوحين مظلومين مأمورين مقيدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً".17
وكان الإمام عليه السلام يرى الإسلام وهو في الرمق الأخير وهو مبتلى بكافة الأمراض المهلكة وأنه سيستشهد لا محالة، وأن إحياء وتجديد دين الله يحتاج إلى دمائه، إلا أنه كان عليه التخطيط جيداً كي لا يذهب دمه هدراً. وقف الإمام عليه السلام أمام الله تعالى مسلماً لمشيئته إلا أنه لم يسلم للحاكم. الإمام الحسين عليه السلام في حركته أتم الحجة لأنه الإمام والحجة ومن وظائفه إتمام الحجة، لذلك نرى الإمام الحسين عليه السلام لم يترك فرصة أو مناسبة إلا ودعا الناس إلى الحق وتحدث أثناء الطريق مع أشخاص كثر أمثال "عبد الله بن الحر الجعفي18 وغيره وكتب الرسائل إلى البعض وطلب منهم المساعدة، حتى إنه في ساحة المعركة وقف مراراً مخاطباً أعداءه، وخاطب عمر بن سعد على الرغم من أن هذه المحاولات لم تؤت ثمارها. وكل ذلك واضح في خطب الإمام في كربلاء.19
الواضح أن الإمام أراد القيام بوظيفته وهي إتمام الحجة على الجميع، حتى على الأصحاب، لذلك كان يدعوهم إلى الاستفادة من ظلام الليل والابتعاد عن الخطر. ولعل من أبرز خصائص الإمام الحسين عليه السلام الأخرى مع اطلاعه الكامل على مستقبل حركته، أنه لم يكن طالباً للحرب، بل كانت حركته تقابل ما يقوم به الأعداء. فالإمام لم يبدأ الحرب، لذلك قال: "ما كنت لأبدأهم بالقتال".
من جهة أخرى لم يكن هناك أي تناسب بين جبهتي الحق والباطل. ولم يكن هناك أي تساوي سواء في جانب القوى البشرية والإعلامية، والاجتماعية، و... من هنا كان على الإمام عليه السلام أن يصحب فيه أفضل الأشخاص وقد اتضح بعد حادثة عاشوراء أنّ نصف تلك الرسالة الإلهية للإمام الحسين عليه السلام قد وقعت على عاتق الحسينيين والنصف الآخر على عاتق الزينبيات.
* حجة الله بيات - بتصرّف
1- ميزان الحكمة، ج1، ص101.
2- سورة الأحزاب، الآية: 21.
3- سورة التحريم، الآية: 11.
4- سورة التحريم، الآية: 10.
5- جواد محدثي، فرهنك عاشورا، 279.
6- المصدر نفسه، 282.
7- المصدر نفسه، 283.
8- موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع-، ص218.
9- المصدر نفسه، 283.
10- المصدر نفسه، ص284.
11- المصدر نفسه، ص361.
12- مقتل المقرم، ص129.
13- المصدر نفسه، ص123.
14- المصدر نفسه، ص135.
15- المصدر نفسه، ص135.
16- المصدر نفسه، ص207.
17- المصدر نفسه، ص136.
18- موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع)، ص365.
19- المصدر نفسه، ص 416.