بسم الله الرحمن الرحيم
من الأسئلة حول تفسير القرآن بالقرآن: هل انّ حجيّة واعتبار تفسير القرآن بالقرآن
والنتيجة الحاصلة من مثل هذا التفسير هي علىٰ نحو الإنحصار أم لا؟ وفي الجواب لابدّ
أن يقال انّ القرآن الكريم وإن كان حجّة بالفعل ومستقلاًّ وهو في أصل الحجّية
لايحتاج إلىٰ غيره، لكنّه ليس حجّة منحصرة بحيث لاتكون هناك حجّة غير القرآن، بل انّ
القرآن بنفسه يصرّح ويؤيّد انّ (العقل) وكذلك (السُنّة) حجّة.
أمّا حجّية واعتبار السنّة وسيرة المعصومين عليهم السلام فهي أمر قطعيّ؛ لأنّ نفس
القرآن الكريم، جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله واُولي الأمر واجبي الطاعة
واعتبر الرجوع إلىٰ النبيّ الأكرم واجباً، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وطبقاً
للنقل القطعيّ والمسلّم قد أعلن بأنّ القرآن والعترة متلازمان ومترابطان بحيث لن
يفترقا، لكنّ أحد هذين الثقلين «ثقل اكبر» والآخر «ثقل اصغر» (في نشأة الكثرة)،
وحجّية السنّة بالنسبة إلىٰ القرآن الكريم هي علىٰ نحو الشأنيّة وهي مؤهّلة لذلك،
يعني ليست حجّة ابتداءً وفي عرض القرآن بنحو مستقلّ وفعليّ، اي انّ نفس السنّة غير
القطعيّة وبغضّ النظر عن القرآن المجيد والعرض عليه هي مؤهّلة ولها الشأنيّة
للإعتبار، وبعد العرض وثبوت عدم التعارض والتباين والتخالف مع القرآن ستبلغ نصاب
الحجيّة الفعليّة والإستقلاليّة وحينئذٍ فمثل هذه السنّة سيكون بالنسبة إلىٰ القرآن
كمثل آيتين من القرآن كلّ واحدة منهما حجّة مستقلّة وليست منحصرة.
والفرق بين الاستقلال والانحصار مُبيَّن بالتفصيل في مبحث وجود المفهوم في الجملة
الشرطيّة في فنّ اُصول الفقه. وحيث انّ حجيّة القرآن مستقلّة وليست منحصرة وإنّ
السنّة بعد الاعتبار وبلوغ حدّ نصاب الحجيّة تكون ذات إستقلال في ضوء القرآن، لهذا
يكون لها القدرة علىٰ أيّ لون من ألوان الشرح والتفصيل والتقييد والتخصيص بالنسبة
إلىٰ القرآن الكريم. فالنتيجة هي اعتبار تفسير القرآن بالقرآن علىٰ نحو الإستقلال
لا الإنحصار. وعلىٰ هذا الأساس، فإعتبار السنّة المُسلّمة للمعصومين عليهم السلام ـ
الّتي هي من المصادر الغنيّة والقويّة للدين ـ سيكون مشهوداً في جميع شؤون تفسير
القرآن.
ومن الجدير بالذكر انّ المراد من الحجّة المستقلّة، ليس هو الحجّة الفعليّة
والتنجيزيّة حتّىٰ لاتكون بحاجة إلىٰ السنّة، بل تعني انّها في الدلالة علىٰ
محتواها والهداية بالنسبة إلىٰ مضمونها مستقلّة. وإن كان لابدّ من البحث عن حجّة أو
حجج اُخرىٰ، بسبب عدم انحصار الحجّة فيها.
تنويه:
1- إنّ اعتبار وحجّية السنّة، حدوثاً وبقاءً، وكما مرّ، مرتبط بالقرآن الكريم،
لأنّه أوّلاً: القرآن هو الّذي أضفىٰ الإعتبار علىٰ السنّة.
وثانياً: انّ اعتبار السنّة غير القطعيّة مشروط بعدم التباين مع القرآن وهذا
الإشتراط يمكن استخراجه من ذلك الأصل الأوّل أي دلالة القرآن علىٰ اعتبار السنّة،
لأنّ القرآن المجيد لو قال بإعتبار الشيء المخالف، والمعارض والمباين له فإنّ هذا
يؤدّي حتماً إلىٰ التهافت ووقوع الإختلاف والتعارض والتباين الداخليّ فيه، وبهذا
التعارض الداخليّ يفقد القرآن اعتباره. فالقرآن منذ البداية لم يعتبر إلاّ السنّة
غير المباينة والسيرة غير المعارضة له، لا مطلق السُنّة حتّىٰ يكون خروج السنّة
المباينة والمعارضة له من باب تخصيص العموم أو تقييد الإطلاق لدليل إعتبار السنّة؛
أي انّ خروج المباين هو من سنخ «التخصّص» لا «التخصيص» وهو من قبيل «التقيّد» لا «التقييد».
وعلىٰ كلّ حال، حيث انّ اعتبار السنّة يكون بواسطة القرآن الكريم، والقرآن الكريم
مطروح أمام الجميع بعنوان كونه معجزة، فإذا لم يثبت إعجاز القرآن وغلبته في مواجهة
التحدّي، فإنّه لاتثبت رسالة الرسول الأكرم (في حالة إنحصار الإعجاز في القرآن)،
ومالم تثبت نبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله فسوف لن تثبت مرجعيّته في
الشؤون الدينيّة وكذلك مرجعيّة المعصومين الآخرين. وبالنتيجة فإنّ الآيات الواردة
في مجال نطاق الإعجاز والتحدّي، وضرورة الوحي والدين والنبوّة والعصمة، لايمكن في
موردها الإستناد إلىٰ سنّة المعصومين عليهم السلام قبل ثبوت كون القرآن وحياً،
لأنّه في هذه المرحلة لم يثبت بعد إعجاز القرآن ولم تثبت رسالة النبيّ الأكرم صلى
الله عليه وآله كي يتمّ الجمع بين سنّة المعصوم وآيات القرآن، وبالتالي فإنّ مثل
هذا الإستناد والإستدلال يلزم منه محذور الدور.
لكنّه من الطبيعيّ انّ الرسول الأكرم في هذه المرحلة يمكن أن يكون مرجعاً لتفسير
القرآن لكن لا بعنوان الرسول المعصوم الّذي يعدّ كلامه حجّة تعبّدية، بل بعنوان «المعلّم
العارف والمفسّر الخبير» في ثلاث جهات:
(1- تبيين تعليمات وأحكام الدين وتحليل مبادئه التصوّرية والتصديقيّة،
2- التعليل وإقامة البرهان بواسطة تعليم المقدّمات المطويّة،
3- الدفاع في مقابل نقد الناقدين الموجّه لأحكام الدين بالأنحاء الثلاثة للنقد وهي
المنع والمعارضة والنقض)
لا بعنوان كونه «مرجعاً تعبّدياً». وإدراك مضمون الآية الّتي تحضّ وتخاطب الكفّار
أو تجعلهم في خطابها بدرجة متساوية مع عامّة المؤمنين، لابدّ أن يكون ميسوراً
للعقلاء حتماً علىٰ نحو الإستقلال والإستغناء عن المرجع التعبّدي، وإلاّ فمع كون
مرجعيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله تعبّدية فإنّ المحاورة مع الكفّار سواء
كانت بنحو خاصّ أو عامّ لن تكون مقبولة ولا هي صحيحة.
وصحيح انّه في حالة ثبوت رسالة النبيّ بواسطة معجزة اُخرىٰ فإنّ أصل حجّية سنّة
الرسول صلى الله عليه وآله تثبت بدون دور، لكنّنا سنواجه اطلاقات نصوص العرض علىٰ
القرآن ممّا يستدعي أيضاً عرض جميع الكلمات غير المقطوع بصدورها عن النبيّ صلى الله
عليه وآله علىٰ القرآن الكريم. وعليه فإنّ السنّة في هذه الحالة أيضاً سوف لن تكون
مرجعاً تعبّدياً.
ومهما كان، فالتعليم والتبيين والتعليل والدفاع عن الأحكام والحِكَم الإلهيّة ليس
لها صفة تعبّدية قبل إثبات النبوّة والعصمة والإعجاز وأمثال ذلك من العناصر
الأساسيّة للنبوّة، بل لها صفة التعليم والإرشاد والتحليل العقليّ فقط، وذلك حتّىٰ
تتّضح المبادئ النظريّة الّتي هي أعمّ من التصوّرية والتصديقيّة للمخاطبين، وحتّىٰ
يعلم التلازم بين المقدّم والتالي أو يعلم بطلان التالي في القياس الإستثنائيّ،
وليس في شيء منها صفة وجنبة التعبّد ولا صبغة السنّة. بل لها جنبة علميّة وصبغة
عقليّة فقط. ومن هنا ستتّضح موارد القدح والنقد في كتابات البعض، وتفاصيل موارد
النقد والقدح واضحة.1
والمقصود هو انّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وقبل إثبات رسالته لايمكن أن
يُقدَّم للناس بعنوان أنّه مرجع تعبّدي لتفسير القرآن، إلاّ أن يكون بمثابة العالم
بجميع حقائق القرآن المجيد، الّذي يثبت المسائل القرآنيّة بالبرهان، وبتحليل
المبادئ والمقدّمات المطويّة والاُسس المستورة والقضايا المكنونة ويقوم بتوعية
وتعليم مُخاطبَيه كما يربّي المعلّم تلاميذه لا كما يلقي المرجع التعبّدي مسائله
وأحكامه تعبّداً فتقبل منه. أجل إذا كانت رسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله
قد ثبتت من قبل بمعجزة اُخرىٰ غير القرآن الكريم ففي هذه الحالة سيكون النبيّ مرجعاً
تعبّدياً إضافة إلىٰ مرجعيّته في مجال التعليم والتبيين.
ويمكن أن يقال إذا كان قسم مهمّ من الآيات القرآنيّة ذا مفاهيم محكمة وبيّنة فهذا
كافٍ أيضاً لكي يدعو الله جميع الناس دون استثناء للتأمّل في تلك الآيات، لكنّ مثل
هذا القول غير صحيح، لأنّ من لم يؤمن بعدُ بالوحي الإلهيّ ولم يعتقد برسالة الرسول
الأكرم صلى الله عليه وآله ، فإنّ مجرّد كون قسم مهمّ من آيات القرآن محكماً وبيّناً
لايكفيه، لأنّ مثل هذا الفرد يحتمل أن يكون القسم الآخر من القرآن غير المفهوم له
ولأمثاله مناقضاً ومنافياً ومتعارضاً مع القسم البيِّن المحكم منه، ومثل هذا الكتاب
المحتمل فيه الإبتلاء بالتعارض والتناقض والتهافت الداخليّ ليس هو كلامَ الله، لأنّ
الله سبحانه نفسه أعلن انّ كلّ القرآن محفوظ من التنافي والتباين؛ الاّ أن يثبت
اعتماداً علىٰ رسالة الرسول انّ ذلك القسم الآخر ليس فيه تهافت مع القسم البيِّن
المحكم، وهذا متوقّف علىٰ ثبوت الرسالة وليس قبل ذلك.
تنويه آخر:
انّ رسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وكما مرّ، إذا ثبتت بمعجزة اُخرىٰ
أيضاً فإنّ سنّته علىٰ الرغم من اكتسابها صفة المرجعيّة التعبّدية بالإضافة إلىٰ
الصبغة التعليميّة إلاّ انّه يجب حتماً أن تُعرض السنّة غير القطعيّة علىٰ القرآن
حتّىٰ لاتكون معارضة له بالتباين. نعم بعد العرض وإثبات عدم التباين فهي حجّة
بعنوان كونها مرجعاً تعبّدياً.
2- انّ اعتبار القرآن وحجّيته المستقلّة هي في مقام الثبوت، وإلاّ ففي مقام
الإثبات تكون بحاجة إلىٰ واسطة.
وعن طريقين يمكن إثبات
اعتباره، فالقرآن المجيد يحرز حجّيته المستقلّة في مرحلة الإثبات (لا الثبوت) عن
طريقين علىٰ نحو القضيّة المانعة للخلوّ: الطريق الأوّل هو طريقة الأولياء الّذين
يدركون حقانيّة القرآن بواسطة الشهود الباطنيّ والعلم الحضوريّ، ويظفرون بالقطع
الشهوديّ (وهو عين اليقين) فيه. والطريق الثاني هو طريقة الحكماء والمتكلّمين حيث
بواسطة العلم الحصوليّ والبرهان العقليّ يتمّ معرفة معنىٰ الإعجاز، والفرق بين
المعجزة والعلوم الغريبة مثل السحر والطلاسم والشعوذة، وتمييزها أيضاً عن عمل
المرتاضين، وكيفيّة اسناد المعجزة إلىٰ مدّعي النبوّة، والتلازم بين الإعجاز والصدق
الضروريّ لصاحب دعوىٰ الرسالة، وسائر المسائل العميقة في هذا المجال. وعندئذٍ تتّضح
بالقطع الحصوليّ «علم اليقين» حقانيّة القرآن الكريم.
والطريق الأوّل يناله الأوحديّ من سالكي طريق الشهود، والطريق الثاني تسلكه جميع
قوافل الفكر، وإذا كان هناك من يؤمن بنبوّة النبيّ لمجرّد الإستناد إلىٰ الحسّ
والإحساس بتغيّر شكل ما ورؤية ظاهرة غير عاديّة، فإنّه برؤية حالة مشابهة لتلك في
الظاهر من المتنبّي فسيتّبعه وينقطع عن النبيّ الصادق ويرتدّ عن الدين الحقيقيّ،
كما فعل بعض بني اسرائيل السذّج الّذين آمنوا بموسى عليه السلام عند رؤية عصاه وهي
تتحوّل الىٰ حيّة تسعىٰ، لكنّهم عند سماع خوار عجل السامريّ تركوا كليم الله عليه
السلام وارتدّوا عنه واتّبعوا السامريّ لأنّه:
﴿أَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَار﴾.2
ومن هنا تتّضح قدرة العقل وسيطرة البرهان العقليّ في مقام إثبات أحقّية الوحي
والرسالة الإلهيّة، وأحقيّة القرآن الكريم المنزّهة في مقام الثبوت عن الحاجة إلىٰ
أيّ عامل آخر، هي في مقام الإثبات بحاجة إلىٰ البرهان العقليّ. طبعاً هذا العقل كما
سيأتي في بحث التفسير بالرأي يحمل مسؤوليّة الرسالة الإلهيّة وهو من مصابيح الهداية
المضيئة في داخل اطار الدين لا من خارجه.
* آية الله الشيخ جوادي آملي – بتصرف يسير
1- مناهج البيان، ج1، ص45
ـ 53.
2- سورة طه، الآية 88.