بسم الله الرحمن الرحيم
لعل مفردة الحرية من أكثر المفردات استعمالا، وأوسعها انتشارا، في قاموس السياسة والفكر السياسي المعاصر، إن لم تكن اكثرها وأوسعها على الإطلاق، حتى باتت أو تكاد، أن تكون الخبز اليومي في الحياة السياسية للناس، سواء أكانوا من علية القوم، أم من عامة الشعب، يتغنى بها الشعراء، ويضرب على أوتارها المثقفون.
إلا أنها على الرغم من سعة انتشارها وكثرة تداولها، لا يزال يكتنفها الكثير من الغموض والالتباس، سواء في المفهوم، أم في الدلالة التعاملية فيها بين الناس، وقد يكون هذا الغموض مقصودا من قبل القيمين على مداخل السياسة ومخارجها، لأن في التعمية على الواقع، والاكتفاء بطرح الشعار البراق، اثارة للعواطف، وتحريكا للوجدان الشعبي العام، وجذبا لكثير من الناس، لما يشتمل عليه عنوانها من اغراء وجاذبية، وهو ما لا يمكن تحصيله- في كثير من الحالات- عند وضوح الرؤية والمفهوم، كما هو الحال في كثير من المفردات المستعملة في القاموس السياسي مثل: ديمقراطية، حقوق الانسان، مساواة الخ...
من هنا نرى ان من اللازم قبل الدخول في عمق البحث، ان نسلط الضوء على هذه المفردة من حيث دلالتها اللغوية.
الحرية لغة:
الحر ما خلص من الاختلاط بما يشوبه من غيره، فيقال رمل حر إذا خلص من الاختلاط بالطين، ورجل حر إذا خلص من العبودية والرق، وامرأة حرة أي كريمة، وحرية العرب أي اشرافهم، فالحرية إذن تعني الخلوص من الشوائب ومن كل ما يؤثر على الجوهر والحقيقة، ومن الخلوص تحرير الولد بمعنى افراده للطاعة، وتخليصه من العبودية لغير الله، قال تعالى على لسان امرأة عمران: ﴿ربي إني نذرت لك ما في بطني محرراً﴾1. ويجمعها معنى واحد هو الخلوص من الشوائب، وعدم الاختلاط بما يؤثر في الجوهر والحقيقة.
الحرية والاختيار:
يبدو من العسير جدا، محاولة الحديث عن الحرية بمعزل عن الاختيار والإرادة، ذلك ان كلا من المفردتين لازمة للأخرى من حيث الجوهر والمضمون، فلا حرية بدون اختيار، كما لا معنى للاختيار مجردا عن الحرية.
من هنا، يصبح الحديث عن احداهما متلازما مع الحديث عن الاخرى بالضرورة، وهذا يستلزم الحديث ايضا عن منابع ومكامن هذا المفهوم في اعماق النفس الانسانية، وانعكاسه على الواقع العملي في الحياة، بل إن الحديث عن الحرية مجردة عن دوافعها وبواعثها كالبنيان بلا أساس ولا قواعد، وإن لم يكن محل بيانها وإثباتها في المقام فعلا.
تحديد المفهوم:
يحاول الباحثون الغربيون التفكيك بين ابعاد المفهوم ومصاديقه، وعزل بعضها عن بعض، ثم دراسة كل بعد من هذه الابعاد، على انه وحدة قائمة بذاتها، لا يربطها بالابعاد الاخرى أي رباط، بدعوى ان كل بعد من هذه الابعاد ينتمي الى مجال علمي خاص به، بعيدا عن المجالات العلمية الأخرى.
ولا شك أن التفكيك بين الابعاد أمر ايجابي وحسن، لو اقتصر على الناحية العلمية والنظرية، لأجل استيعاب الفكرة وتعميقها من كافة جوانبها القابلة للدرس، الا انه يشتمل ايضا على كثير من المغالطة والسلبية، التي تنعكس بالضرورة على ذهنية الانسان ونمط تفكيره، وتؤدي به في اقل الفروض ان يعيش حالة من ازدواج الشخصية، بل ثلاثيتها ورباعيتها، نتيجة اجتماع الكثيرمن المتناقضات في داخل الوجدان، على نحو لا يمكن التوفيق بين مفرداتها من الناحية العملية.
ولا بد هنا من استعراض المعاني المفترضة، أو الأبعاد المجزأة لمفهوم الحرية، والتي زعموا أنها لا ترتبط بعضها ببعض، وهي:
أولا: أن الإنسان ذو إرادة حرة ناشئة عن اختيار محض، وخالية من أي إكراه أو إجبار، وقد أعطوا هذا المفهوم معنى فلسفيا، لا يتجاوزه إلى الأبعاد العملية في حياة الإنسان، لصدوره عن إرادة حرة. ونلاحظ هنا أن تفسير الحرية بهذا المعنى وحصره بالإرادة، مبتنية على فهم الفلسفة على أنها مجرد ترف فكري، وحركة ذهنية، لا تترتب عليها آثار في حياة الإنسان من الناحية العملية بالضرورة، وهو لازم لهذه الرؤية سواء قصدت في كلامهم أم لم تقصد. إن هذه النظرة التجزيئية ظاهرة في كثير من المدارس الفلسفية الغربية المنتشرة، والتي تنقلب بالضرورة رؤية مثالية لا ترتبط بالواقع، ولا تنسجم معه، فلا النظرية تطابق التطبيق، ولا العمل صادر عن الفكرة المتكاملة والمتناسقة.
ثانيا: أن الإنسان إنما يكون حرا عندما يتمكن من القيام بكل ما لا يضر الآخر، وهذه المرتبة أرقى من القيام بالعمل على نحو يكون مستقلا ومنفردا عن من عداه بالمرة، وهذا القسم لا بد وان يكون نابعا من ذات الشخص بعد معرفة ماذا يريد، ولماذا يريده، وأعطوا هذا المفهوم بعدا أخلاقيا ونفسيا، ذلك أن الحرية هي أقصى حد من الاستقلال، بالنسبة إلى الإرادة، التي تجزم أمرها في ظل فكرة هذا الاستقلال، بغية هدف تملك الإرادة فكرة عنه أيضا. ونلاحظ هنا أن منشأ هذا المعنى النظرة إلى النفس على أنها ذوات منعزلة الجوانب، وكأن السلوك لا ينتج عن معاقد هذه النفس المختلفة، بحيث تشكل كلا واحدا يدير جوانب الشخصية الإنسانية، ويحركها تجاه ذاتها وتجاه الآخرين، في ما يؤمن مصلحة الكل على مختلف المستويات وهي نظرة متطرفة لا تصيب كبد الحقيقة، ولا تلامس الواقع.
ثالثا: أن الإنسان بحكم علاقته بالمجتمع فإنه مسؤول بشكل أو بآخر عن هذا المجتمع، وبالتالي فإن الحرية عبارة عن عدم إجبار المجتمع له على اختيار شيء، وعليه فيكون الإنسان حرا بهذا المعنى عندما يستطيع أن يفعل كل ما لا يمنعه منه القانون، وأن يرفض كل ما لا يأمره القانون بفعله وقد أعطوا هذا المعنى مفهوما سياسيا واجتماعيا2. ويتفرع على هذا القسم كثير من الفروع، كحرية الرأي، وحرية التعلم، وحرية الدين، والحرية السياسية وغير ذلك مما يتسم بطابع الحقوق وقد يطلق عليه مصطلح حرية حقوقية.
إشكالية تحديد المفهوم
إلا أن من الظاهر الجلي، أن الكلام عن اختلاف في المعاني المفترضة، يفتقر إلى الدقة والموضوعية العلمية، ذلك أن هذه المعاني ليست إلا تجليات ومصاديق للمعنى الجامع والكلي لكلمة الحرية، وهو الخلوص من الشوائب، الناشئ عن اختيار وإرادة، دون إجبار أو إكراه، إذ من الواضح أنه لا معنى للقول بأن حرية الرأي أو الفكر أو السياسة أو غيرها مغايرة لها بالمعنى الفلسفي أو النفسي أو غير ذلك، لأن هذه الموارد عبارة عن تعينات ومظاهر لذلك المفهوم.
وبعبارة أخرى، إن ما افترضوه معنى فلسفيا للحرية في حقيقته تحديد للمفهوم وبيان له، وأما المعنى النفسي فهو عبارة عن المنطلقات والدوافع التي تنعقد عليها النفس الإنسانية، لقبول ما وقع عليه الاختيار أو رفضه، وأما المعنى السياسي والاجتماعي فيشكل النتائج والمظاهر لهذه الدوافع والمنطلقات، وتشكل تجليات ذلك المفهوم المحدد.
وإلا فلا يتصور عاقل عدم كون حرية الرأي أو الدين أو غيرهما ناشئة من تلك المقدمات، لأن معناه خلو الحرية حينئذ من أي معنى.
إن حرية الاختيار حتى وإن كانت استجابة لمتطلبات الشهوة والغضب، وغيرهما من خصائص النفس الإنسانية لا تخرج عن هذا المعنى كذلك، لأن الحرية بهذا المعنى وإن كانت تعني تحرير العقل من أسر هاتين القوتين، إلا أن نفس اندفاع الإنسان وراء الشهوة والغضب كاشف عن قدرته على الاختيار والتمييز، وعلى ممارسة هذا الاختيار في الواقع العملي، غاية الأمر أن قيمة الحرية والاختيار تتأثر سلبا وإيجابا، بحسن الاختيار وسوئه، وهذا ما يتطلب توافقا وارتباطا بين النظري والعملي، وأن العملي ناشئ عن النظري، ومتفرع عنه لا محالة.
الحرية العامة:
عندما تطرح مفردة الحرية في أي مجال من المجالات الحياتية، فإنما تطرح بهدف معرفة ما إذا كان الإنسان مسؤولا تجاه ذاته ومجتمعه، أو بيان وظيفته أمام العلاقات التي تنتج عن حياته الاجتماعية، وهي بهذا المعنى تشكل أهم مظاهر الحرية من الناحية السلوكية والتي ترتبط بفلسفة الحقوق من الناحية القانونية.
من هنا، ندخل مرة أخرى في مسألة القانون والسقف، الذي يفترض أن يظلل فضاء الحرية هذه، لأن إطلاق الحرية على نحو لا يحدها حد، ولا تقيدها أصول وقواعد، هو دعوة إلى الفوضى والعبث واستشراء الفساد في المجتمع الإنساني كله.
هذا مع التأكيد على أن استخدام الحرية في أي مظهر من مظاهرها، يجب أن يعتمد على مقدمات ودوافع سليمة، يمكن أن تؤدي بالفرد، وبالتالي بالمجتمع الإنساني كله، إلى شاطئ الأمان، وتوصله إلى الغاية المرجوة. الأمر الذي يفترض وعيا وإدراكا تامين، لما سيؤول إليه اختيار أي بديل من البدائل المفترضة موقعا للاختيار، وحينئذ تكون حرية مسؤولة، يرجى لها النجاح وازدهار المجتمع، ولا تكون حرية فوضوية وعبثية، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى الكشف عن القانون والسقف الذي تدور الحرية في فضائه.
* سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
1- سورة آل عمران آية:35
2- موسوعة لالاند الفلسفية ج2 ص727-729 بتصرف.