يذكر القرآن الكريم لنا مثالاً في قوله تعالى: (وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *
وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ
لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *
قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ
وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)[1].
ففي المثال يضرب تعالى عبرة لنا بالملائكة مع قدسيتهم ومكانتهم، إلاّ أنّه
لاحتجابهم عن علم الغيب الإلهي بدر منهم استنكار ما جهلوه ومسارعة إلى التنديد به
مع كونه الحقّ. ويشير إلى النموذج الثاني الإمام أبو عبد الله (عليه السلام) في
قوله: « إنّما مثل علي (عليه السلام) ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسى
(عليه السلام) والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه
الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) في كتابه، وذلك أنّ الله قال لموسى: (إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[2]، ثمّ قال: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ
كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء)[3]، وقد كان عند العالِم علم
لم يُكتب لموسى في الألواح، وكان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في
تابوته وجميع العلم قد كُتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم
فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة
إليه وصحّ لهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلموه وحفظوه. وليس كلّ علم رسول
الله (صلى الله عليه وآله) علموه، ولا صار إليهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشيء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه، ولا
يكون عندهم فيه أثر عن رسول الله، ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن
يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه. ولذلك استعملوا الرأي والقياس في
دين الله، وتركوا الآثار ودانوا الله بالبدع، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله): كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شيء من دين الله فلم يكن عندهم منه
أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لَعلِمهُ
الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد (عليهم السلام)، والذي منعهم من طلب العلم منّا
العداوة والحسد لنا، لا والله ما حسد موسى (عليه السلام) العالِم، وموسى نبيّ الله
يُوحي الله إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم ولم يحسد كما حسدتنا هذه الأُمّة
بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما عَلِمنا وما ورثنا عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله)، ولم يرغبوا إلينا في عِلمنا كما رَغب موسى (عليه السلام) إلى
العالِم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالِمَ ذلك عَلِم
العالِمُ أنّ موسى (عليه السلام) لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمَه ولا يصبر معه،
فعند ذلك قال العالِم: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)[4]،
فقال موسى (عليه السلام) له وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله: (سَتَجِدُنِي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)[5].
وقد كان العالم يعلم أنّ موسى (عليه السلام) لا يصبر على علمه، فكذلك - والله يا
إسحاق بن عمّار - حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لا يحتملون والله -
علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسى
(عليه السلام) على علم العالِم حين صحبه ورأى ما رأى من علمه، وكان ذلك عند موسى
(عليه السلام) مكروهاً، وكان عند الله رضاً وهو الحقّ وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه
لا يؤخَذ وهو عند الله الحقّ»[6].
وفي هذه الرواية العديد من الوجوه على ضرورة موقعية الإمام في القيمومة على
الشريعة، وسيأتي بيانها مفصّلاً، إلاّ أنّنا نقتصر في المقام على نبذة مجملة منها،
وهي أنّ النبيّ موسى (عليه السلام) مع كونه نبيّاً مرسلاً من أولي العزم يتنزل عليه
الوحي، أي إنّه محيط بالأحكام الشرعية وتشريعات الله على ما هي عليه في الواقع، أي
بالأحكام الواقعية، إلاّ أنّ ذلك لم يغنه عن العلم اللدني الذي أعطاه الله للخضر،
وهو الشريعة في نظامها الكوني والإرادات الإلهية التكوينية. وهذا العلم اللدني غير
النبوّة، وهو حقيقة الإمامة، والذي كان مجتمعاً بشكله الأكمل والأتمّ في خاتم
النبيين (صلى الله عليه وآله)، فلا تُغني الإحاطة بالأحكام الواقعية لكلّ تفاصيل
ظاهر الشريعة عن شريعة الإرادات الإلهية الكونية وتأويلها، فضلاً عن إحاطة الفقهاء
القاصرة عن الإلمام بكلّ الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة. بل الفقهاء كما ذكر
المحقّق النائيني في بحث الإجزاء - لا يحيطون بجميع الأحكام الظاهرية التي دورها
إحراز الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة؛ فإنّ جملة من الأحكام التي يستنبطها هي
أحكام تخيّلية التي ينكشف له عدم كون استنباطها على الموازين من الأدلّة. وبعبارة
أُخرى: إنّ الفارق بين علم النبيّ موسى وعلم الفقهاء، إنّ علم النبيّ موسى ليس
منبعه نقلي، بل هو منبع وحياني، بينما منبع علم الفقهاء ليس إلاّ ظنون معتبرة،
فضلاً عمّا لو كانت ظنون تخيّلية يتوهّم أنّها معتبرة، ومع كلّ ذلك فلم يُغن علم
النبيّ موسى وهو صاحب الشريعة - عن علم التأويل الذي زوّده الله تعالى للخضر
لدنيّا، فكيف يفرض استغناء الفقهاء في أحكام الشريعة عن دوام الرجوع إلى المعصوم؟
* آية الله الشيخ محمد سند - بتصرف
[1] - سورة البقرة 2:
30 - 33.
[2] - سورة الأعراف 7: 144.
[3] - سورة الأعراف 7: 145.
[4] - سورة الكهف 18: 68.
[5] - سورة الكهف 18: 69.
[6] - تفسير البرهان ص 651 - 652.