الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
نبارك للإمام صاحب العصر والزمان (عليه السلام) وللإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) وللأمّة الإسلاميّة، ذكرى ولادة السيّدة الزهراء (عليها السلام) وحفيدها الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه).
قال الله -تعالى- في كتابه العزيز: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾[1].
أيّها الأحبّة،
لطالما كانت النظرة إلى المظلوم يشوبها الشعور بالشفقة، بصرف النظر عن أحقّيّته وعدمها، وكلّما ازداد التضييق عليه، ازداد هذا الشعور نحوه.
إلّا أنّ هذا الشيءَ المتعارف عليه في الواقع ليس مطّرداً؛ ذلك أنّ المظلومَ والمستضعفَ إذا كان يصدح بكلّ شجاعة وقوّة بحقّه، من دون أن يخشى أحداً، ويمتلك المقوّمات المعنويّة والروحيّة والفكريّة كلّها، التي تجعله مثالاً لمناهضة الظلم والظالمين، فحينها لا يكون لتلك النظرة مكان، بل يصبح صاحب الحقّ هذا موئلاً وملجأً ومُلهِماً للآخرين ممّن رام السير على المبادئ الإنسانيّة، وهو يرفع لواء الحقّ وكلمة المستضعفين، وهذا ما كان عليه البيت العلويّ المبارك، ومنه السيّدة فاطمة (عليه السلام)، التي كانت أوّل من رفع صوتَه دفاعاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعد رحيل النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
لقد استطاعت أن تحوّل مظهرَ المظلوميّة إلى مظهر قوّة، وذلك من خلال ما تحلّت به من مقوّمات معنويّة وفكريّة جليلة، من تقوى وورع وعفّة وحكمة وتوكّل وحسن ظنّ بالله، فقد كان ذلك كلّه وأكثر مدعاةً لأن تكون (عليها السلام) شخصيّة قياديّة بكلّ ما للكلمة من معنى، حتّى قال فيها الإمام الحسين (عليه السلام) وهو الإمام المعصوم: «أمّي خير منّي»، كذلك الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام): « نحن حجج الله على خلقه، وجدّتنا فاطمة حجّة علينا».
ولو نظرنا إلى سيرة أبيها المصطفى (صلّى الله عليه وآله) معها قبل وفاته، لوجدنا نموذجاً جليّاً ممّا كانت عليه (عليها السلام) من الصفات الجليلة؛ ما جعل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) يُظهِر لها التكريم، وأيّ تكريم، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «في مثل هذا العالم، ربّى النبيّ الأكرم بنتاً صارت لائقةً بأن يأتيَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويقبّلَ يدها! إنّ تقبيلَ يد فاطمة الزهراء (عليها السلام) من قِبَل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لا ينبغي أن يُؤخذَ أبداً على معنىً عاطفيّ؛ فهذا أمرٌ خاطئٌ جداً، إنْ تصوّرنا أنّه يقبّل يدها فقط لأنّها ابنته ولأنّه يحبّها. هل شخصيةٌ بمثل هذه العظمة، وبمثل تلك العدالة والحكمة، الّتي كانت في النبيّ، وهو يعتمد على الوحي والإلهام الإلهيّ، ينحني ويقبّل يد ابنته؟ كلّا، إنّ هذا أمرٌ آخر، وله معنىً آخر؛ إنّه يحكي عن أنّ هذه الفتاة وهذه المرأة عندما ترحل من هذه الدنيا في عمر 18 أو 25 -قيل 18، وقيل 25- تكون في أوج الملكوت الإنسانيّ وشخصاً استثنائيّاً، هذه نظرة الإسلام إلى المرأة»[2].
تجلّي القيادة في شخصيّتها
إنّ ما تقدّم كلّه في ذكر طرفٍ من شخصيّتها (عليها السلام)، كان له الأثر الكبير في انقياد الآخرين لها والاقتياد بها، وهذا يدلّ على الجانب القياديّ الذي كانت تتحلّى به (عليها السلام)، فلم تكن مجرّد امرأة مؤمنة وتقيّة، بل كانت فاعلة في المجتمع وفي مساره العقديّ والسياسيّ، وما زالت حتّى الآن مصدر إلهام لكلّ حركة إيمانيّة ثوريّة مناهضة للظلم والاستكبار.
لم تقتصر جهودها (عليها السلام) على تثقيف الأفراد فحسب، بل عملت على بثّ الوعي في صفوف الناس واستنهاضهم عندما اقتضت الحاجة ذلك، وخير شاهد على هذا خطبتها التاريخيّة التي ألقتها على مسامع المهاجرين والأنصار في مسجد أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والتي دعتهم فيها إلى التمسّك بدين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والتعاليم التي جاء بها من عند الله -تعالى-، كما حثّتهم على مقارعة الظلم ومقاومة الاستبداد. لقد كانت خطبتها خطبةً عامّة، سياسيّة واجتماعيّة وعقديّة، شملت الظروف والحيثيّات الدقيقة والحسّاسة التي كانت تمرّ فيها الأمّة الإسلاميّة آنذاك.
ومن مواقفها القياديّة أيضاً، سعيها في توعية الجماهير وإلقاء الحجّة عليهم بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إذ كانت تدور على بيوت المهاجرين والأنصار، محاولةً تحريكَ ضمائرهم وحثّهم على نصرة الحقّ وإعلاء كلمة الله.
الإمام الخمينيّ(قُدِّس سرّه) حفيد الزهراء(عليها السلام)
تصادف ذكرى ولادة السيّدة الزهراء (عليها السلام)، ذكرى ولادة حفيدها الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، الذي لطالما أسدى بها أرقى الكلمات والعبارات، وكثيراً ما كان يعبّر عن أنّنا لا نستطيع أن ندركَ مقام هذه السيّدة العظيمة؛ لما تتحلّى به عند الله، من درجات وكمالات نفسيّة وروحيّة.
قال (قُدِّس سرّه) في ذلك: «لا يفي حقَّها من الثناء كلُّ من يعرفها، مهما كانت نظرته ومهما ذكر؛ لأنّ الأحاديثَ التي وصلتنا عن بيت النبوّة هي على قدر فهم المخاطبين واستيعابهم، من غير الممكن صبُّ البحر في جرّة»[3].
[1] سورة الكوثر، الآيات 1-3.
[2] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 04/10/1370هـ.ش.
[3] مكانة المرأة في فكر الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، ص24.