الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولً﴾[1].
أيّها الأحبّة،
إنّ في الإسلام نماذج مذهلة في إظهار مبدأ العدل، تسري في مفاهيمه العقديّة وأحكامه وإرشاداته كلّها، وهي تدعو الإنسان إلى الالتزام بهذا المبدأ العظيم في علاقته مع من حوله من الناس.
وممّا دعا إليه الإسلام في سبيل إرساء العدالة بين الناس، ما في قوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾. وهو ما تكرّر في أكثر من موضع من كتاب الله العزيز[2]، إذ يُستفاد منها النقاط الآتية:
الأولى: تُعَدّ هذه الآية المباركة «واحدةً من الأسس المهمّة في الاعتقادات الإسلاميّة، والحقيقة أنّها ترتبط من جانب بالعدل الإلهيّ، بحيث يرتهن كلّ بعمله. وهو -تعالى- إنّما يثيبُ الشخصَ على سعيه واجتهاده في طريق الخير، ويعاقبه على ذنبه.
ومن جانب آخر، فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة، بحيث لا يكون أحدٌ مستعدّاً لتحمّل وزر عمل غيره على عاتقه، مهما كان قريباً منه»[3].
الثانية: إنّ الاقتصاص ممّن لا ذنب له، جرّاء ما يفعله شخص آخر، أمر منهيّ عنه، كأولئك الذين يُقدمون على قتل رجل لمجرّد جريمة قتل ارتكبها أحدٌ من أقاربه أو أهل ملّته أو تيّاره السياسيّ أو عشيرته، وهذا ما يعبّر عنه بـ «الأخذ بالثأر».
إنّ الأخذ بالثأر، على هذا الشكل، يُعَدّ من الأمور المنهيّ عنها في الشرع الإسلاميّ الحنيف، لما فيه من ظلم وتعدٍّ على حدود الله -تعالى-، وممّا يشير إلى ذلك قوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُور﴾[4].
فالاقتصاص من القاتل، له شروط لا بدّ من التقيّد بها، منها أنّ الاقتصاص وقتل الجاني، إنّما هو بيد الحاكم الشرعيّ، فهو من بيده البتّ والفصل في مثل هذه القضايا الدقيقة.
أيضاً، فإنّ قتل غير القاتل والجاني، يعدّ من الموبقات الكبرى، وهو قتلٌ لنفس بغير نفس.
الثالثة: عدم تعميم الحكم على مجموعة من الناس، لمجرّد أنّ أفراداً منهم قاموا بارتكاب خطأ ما، كما يحدث عادة في المجتمعات البشريّة التي لا تلتزم هذا الأدب وهذا المبدأ، فنرى الغربييّن يتّهمون جميع المسلمين بأنّهم إرهابيّين، لمجرّد أنّ مجموعات ضالّة لا تمثّل الإسلام والمسلمين في الواقع، قاموا بأعمال منافية للمبادئ الإسلاميّة والإنسانيّة.
وهذا في الواقع من أشدّ ما تجرّع المسلمون تبعاته السيّئة، وهم من كلّ ذلك براء. ومع ذلك، يسعى الآخرون لإلصاق التهمة بهم جميعاً، بل بالإسلام نفسه وأحكامه.
أيضاً، كما يفعل بعض أبناء مجتمعاتنا، من اتّهام فئة من الناس لمجرّد أنّ أفراداً منهم يقومون بما هو غير لائق، ومنافٍ لمبادئ الإسلام والحقّ.
والله دعانا إلى أن نكون عادلين في كلّ ما نقوم به، من قول وفعل، ومن ذلك قوله -سبحانه-: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾[5].
عدالة القرآن في التوصيف
أيّها الأحبّة،
نلاحظ دقّة القرآن في توصيف بعض الجماعات المناوئة للإسلام، فقد كان حريصاً في عدم شموليّته لها في وصفه إيّاها، كما في قوله -تعالى-: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾[6]. وكذلك قوله في المنافقين، فلم يشملهم جميعاً في قضيّة الإساءة إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، إذ قال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾[7]، وغيرها الكثير من النظائر.
نماذج من سيرة الأولياء
ثمّة نماذج متعدّدة من سيرة الأنبياء والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، تؤكّد لنا مدى حرصهم على تطبيق هذا المبدأ الجليل، منها:
1. ما فعله نبيّ الله يوسف (عليه السلام)، وذلك حينما وضع السقاية في رَحل أخيه بنيامين، بغية إبقائه لديه، فجاء إخوته يقولون: ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[8]، فأجابهم (عليه السلام) قائلاً: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾[9].
2. وكذلك، ما ورد في شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) حين ضربه ابن ملجم، فجمع (عليه السلام) أفرادَ عشيرته من بني عبد المطّلب، وقال لهم: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي. انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِه هَذِه، فَاضْرِبُوه ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، ولَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ! ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»[10].
[1]سورة الإسراء، الآية 15.
[2] سورة الأنعام، الآية 164/ سورة الإسراء، الآية 15/ سورة فاطر، الآية 18/ سورة الزمر، الآية 7.
[3] الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج14، ص58.
[4] سورة الإسراء، الآية 33.
[5] سورة الأنعام، الآية 152.
[6] سورة آل عمران، الآية 75.
[7] سورة التوبة، الآية 58.
[8] سورة يوسف، الآية 78.
[9] سورة يوسف، الآية 79.
[10] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (كلام أمير المؤمنين (عليه السلام))، ص 422.