قال الله -تعالى- في كتابه الكريم: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾[1].
أيّها الأحبّة،
إنّ الإنسان في هذه الحياة الدنيا إنّما هو في امتحان دائم ومستمرّ؛ ذلك أنّ الدنيا ليست دار حساب، إنّما دار عمل وسعي، ومن يعمل فيها مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل فيها مثقال ذرّة شرّاً يره.
وقد يرتكب المرءُ الذنوبَ في هذه الحياة لضعف في نفسه وجهالةٍ من أمره، فيعصي الله العزيز الجبّار، ويقع تحت وطأة الذنوب وآثارها وتبعاتها، التي تلحقه في دنياه فضلاً عن آخرته ويوم حسابه.
ذلك أنّ للذنوب آثاراً على حياة الإنسان، يغفل الكثيرون عن خطورتها، وقد أكّدت ذلك آيات القرآن الكريم وسنّة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).
قال -سبحانه-: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرً﴾[2].
وقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾[3].
وأيضاً: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[4].
وغيرها من الآيات المباركة، التي تؤكّد هذا المعنى والمفهوم.
أمّا الأحاديث والروايات، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار؟!»[5].
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «كان أبي (عليه السلام) يقول: إنّ اللّه قضى قضاءً حتماً، ألّا يُنعم على العبد بنعمة فيسلبها إيّاه، حتّى يُحدثِ العبدُ ذنباً يستحقّ بذلك النقمة»[6].
.
وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون»[7].
التوبة رحمة
أيّها الأحبّة،
إنّ من رحمة الله -تعالى-، أن فتح لعباده باب التوبة والرجوع إليه مهما أذنبوا وارتكبوا المعاصي، وذلك لئلّا يصابوا باليأس والإحباط، ويوغلوا في ذنوبهم ومعاصيهم وفسادهم في هذه الحياة أكثر فأكثر. فجاءت التوبة مخرجاً وفرصة ثمينة، لكلّ من ارتكب ذنباً أسخط فيه ربّه -سبحانه-، الذي وعد بأنّه يغفر الذنوب جميعاً، وبأنّه يتوب على عباده الذين أسرفوا على أنفسهم، فقال -سبحانه-: ﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[8].
وقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾[9].
فضل التوبة
إنّ للتوبة فضائل كثيرة وعظيمة، ينال التائب بركاتها في الدنيا وكذلك في الآخرة.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا تَابَ الْعَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً أَحَبَّه اللَّه، فَسَتَرَ عَلَيْه فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ»، فقال الراوي: وكَيْفَ يَسْتُرُ عَلَيْه؟ قَالَ: «يُنْسِي مَلَكَيْه مَا كَتَبَا عَلَيْه مِنَ الذُّنُوبِ، ويُوحِي إِلَى جَوَارِحِه اكْتُمِي عَلَيْه ذُنُوبَه، ويُوحِي إِلَى بِقَاعِ الأَرْضِ اكْتُمِي مَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَيْكِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَيَلْقَى اللَّه حِينَ يَلْقَاه ولَيْسَ شَيْءٌ يَشْهَدُ عَلَيْه بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ»[10].
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمُقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»[11].
عن الإمام الباقر أو عن الإمام الصادق (عليهما السلام) قال: إنّ آدم (عليه السلام) قال: يا ربِّ، سلّطت عليّ الشيطان، وأجريتَه مجرى الدم منّي؛ فاجعل لي شيئاً أصرف كيده عنّي، قال: يا آدم، قد جعلتُ لك أنّ من همّ من ذرّيّتك بسيّئة لم يكتب عليه، ومن همّ منهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت له عشرة، قال: يا ربِّ، زدني، قال: يا آدم، قد جعلتُ لك أنّ من عمل منهم بسيّئة ثمّ استغفر غفرتُ له، قال: يا ربِّ زدني، قال: قد جعلتُ لهم التوبة أو بسطتّ لهم التوبة حتّى تبلغ النفس الحنجرة، قال: يا ربِّ، حسبي»[12].
التوبة النصوح
التوبة النصوح هي التوبة البالغة في النصح والخالية من الغشّ، بأن لا ينوي التائب من الذنب المعاودة إليه تارةً أخرى، فهي توبة صادقة في الإقلاع عن الذنوب وخالصة لوجه اللّه وحده.
وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السَّلام) في تفسيرها قائلاً: «أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ كَالظَّاهِرِ وَأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»[13].
متى ينبغي التوبة؟
لا ينبغي للمرء المذنب أن يؤخّر توبته بين يدي الله، وأن يترك للشيطان يداً عليه فيسوّفها، فإنّ ذلك من أخطر ما يقع فيه الإنسان، ويخرج من الدنيا مبغوضاً عليه.
من هنا، فإنّ على الإنسان أن يبادر دوماً إلى التوبة والاستغفار، لئلّا يقع في الآثار الوخيمة التي تلحقه بسبب ذنوبه.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه توبته، ثمّ قال: إنّ السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته، ثمّ قال: إنّ الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبِل اللّه توبته، ثمّ قال: إنّ الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبِل اللّه توبته، ثمّ قال: إنّ يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبِل اللّه توبته»[14].
تجدّد التوبة
عن محمّد بن مسلم قال: قال الباقر (عليه السلام): «يا محمّد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له، فليعملِ المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما واللّه إنّها ليست إلّا لأهل الإيمان»، قلتُ: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة، فقال: «يا محمّد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه -تعالى- منه ويتوب، ثمّ لا يقبل اللّه توبته!»، قلت: فإنّه فعل ذلك مراراً، يُذنب ثمّ يتوب ويستغفر، فقال: «كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفور رحيم، يقبل التوبة، ويعفو عن السيّئات، فإيّاك أن تُقنّط المؤمنين من رحمة اللّه -تعالى-»[15].
[1] سورة هود، الآية 232.
[2] سورة الإسراء، الآية 16.
[3] سورة الأنعام، الآية 6.
[4] سورة الرّوم، الآية 41.
[5] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص359.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص273.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص275.
[8] سورة الأنعام، الآية 54.
[9] سورة الزمر، الآيتان 53 و54.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص430.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص435.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص248.
[13] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص174.
[14] الشيخ النراقيّ، جامع السعادات، ج3، ص53.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص434.