بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمّد وآله الطاهرين.
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلَّت بفنائك، عليك منّي سلام الله أبداً ما بقيتُ وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتك، السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
إلى مولانا صاحب الزمان وصاحب العزاء (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء، في أيّام العزاء والبكاء، أيّام عاشوراء الحسين (عليه السلام)، سائلين المولى أن يرزقنا شفاعة الحسين يوم الورود، ويثبّت لنا قدمَ صدقٍ عنده مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام).
قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[1].
العزّة قوّة وشدّة ومغالبة وممانعة، هي من أوصاف الله تعالى وأسمائه. و«العزيز» هو الغالب القويّ الذي لا يغلبه شيء، وهو أيضاً المعزّ الذي يهب العزّة لمن يشاء من عباده.
وإنّ الإيمان بهذا الاسم يعطي المسلمَ شجاعةً وثقةً كبيرةً؛ إذ إنّ معناه أنّ ربّه لا يردّ أمرَه، وأنّه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز، فمن أراد عزَّ الدارين فليطعِ العزيز»[2].
وقد أشار الله في كتابه المجيد إلى أنّ العزّةَ خُلقٌ من أخلاق المؤمنين، التي يجب أن يتحلَّوا بها ويحرصوا عليها، فقال: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[3].
العزّة لله جميعاً
لكنّ بعض الآيات حصرت العزّة بالله وحده، وأنّه هو ربّها ومالكها، قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، وقال أيضاً: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[4].
العزّة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وللمؤمنين
فإذا كانت العزّة لله جميعاً، وهو مالكها وربّها، فكيف تكون حينئذٍ لرسوله وللمؤمنين؟ كما في الآية المباركة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، فهذه الآية كما تعطي العزّةَ لله، كذلك تعطي العزّةَ لرسوله وللمؤمنين، بينما الآيات المتقدّمة تجعلها لله وحده.
إنّ هذا الحقّ هو له تعالى، وهو مالكه ومتصرّف فيه كيف شاء، فله أن يعطيَه من يشاء من خلقه. وإنّ أولياءَ الله وأحبّاءَه، يقتبسون نوراً من نوره، فيأخذون عزّاً من عزّته؛ فصفة العزّة ليست صفة يستحيل أن يتّصف بها العبد إذا كان برضا من الله ومنّةٍ منه. قال العلّامة الطباطبائيّ: وبذلك يظهر أنّ قولَه: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾، ليس بمسوقٍ لبيان اختصاص العزّة بالله، بحيث لا ينالها غيرُه، وأنّ من أرادها فقد طلب محالاً وأراد ما لا يكون، بل المعنى مَن كان يريد العزّة فليطلبْها منه تعالى؛ لأنّ العزّة له جميعاً، لا توجد عند غيره بالذات[5]. فلا بدّ حينئذٍ للذي يريد العزّة من أن يطلبها من الله فقط؛ لأنّها له وهو مالكها، ولا يصحّ أن يطلبها من أحد غيره، وإلّا خسر؛ إذ إنّ الإنسان العاقل يجب أن يتزوّد بالماء من منبعه؛ لأنّ الماء الصافي والوافر يتوفّر هناك، لا في الأواني الصغيرة المحدودة أو الملوّثة في يد هذا وذاك.
بل إنّ الرواياتِ الإسلاميّةَ حذّرت المؤمنين من التنازل عن عزّتهم، ونهتهم عن تهيئة أسباب الذلّة في أنفسهم، ودعتهم بإلحاح إلى الحفاظ على هذه العزّة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، قال: «المؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً»، ثمّ قال: «إنّ المؤمنَ أعزُّ من الجبل؛ إنّ الجبلَ يُستقَلُّ[6] منه بالمعاول، والمؤمن لا يُستقَلُّ من دينه شيء»[7].
وهذا ما جعل من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ومعركته في كربلاء تجسّد أرقى معاني العزّة والكرامة والعلوّ والشموخ، على الظالمين الذين سلكوا دروب الشيطان في حكمهم وسياستهم مع الناس؛ ولهذا فإنّ عزّ الإمام الحسين (عليه السلام) من عزّ الله تعالى، جاء في دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام): «يا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بِالسُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ، فَأَوْلِياؤُهُ بِعِزِّهِ يَعْتَزُّونَ، يا مَنْ جَعَلَتْ لَهُ المُلُوكُ نَيْرَ المَذَلَّةِ عَلى أَعْناقِهِمْ، فَهُمْ مِنْ سَطَواتِهِ خائِفُونَ»[8].
العزّة في كربلاء
إنّ العزّة الحقيقيّة المستمدّة من الله سبحانه، هي التي جعلت الإمام الحسين (عليه السلام) يقف ذلك الموقف في ساحة كربلاء، هي التي جعلت العبّاس (عليه السلام) يقف ذلك الموقف عند المشرعة، لا يوجد تفسير آخر ولا تحليل يمكننا من خلاله فهم واقعة كربلاء ومعرفة عمق ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، إلّا من خلال معرفة الله عزّ وجلّ. هذه المعرفة هي التي تنتج هذه المواقف البطوليّة والاستثنائيّة، فحينما يختزن قلبُ المرء معرفةً راقيةً بالله عزّ وجلّ، فإنّها تجعله يقف على شاطئ العلقميّ، وقلبُه أحرُّ من جمر الغضا[9]، وهو في أشدّ حالات العطش، يأخذ الماءَ بيده، يدنيه من فمه، فيتذكّر عطش الإمام الحسين (عليه السلام) -هذه ليست قضيّةَ أخوّة، بل هي قضيّة إمامٍ مُفترَض الطاعة، خليفة الله في الأرض- فيرميه من يده، ويقول: «يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني، وبعدَه لا كنتِ أن تكوني»[10]، ثمّ حينما تُقطَع يمينه، يرتجز ويقول: «والله إن قطعتمُ يميني، إنّي أحامي أبداً عن ديني»[11]. هذا الإنسان، وهو مصاب بهذه الكيفيّة في ساح الحرب، تجد في داخله من مكامن القوّة والعزّة ما تحار الألباب في تفسيرها، إلّا إذا وجدت لها نسباً وسبباً إلى القويّ العزيز «فَأَوْلِياؤُهُ بِعِزِّهِ يَعْتَزُّونَ».
مذهب الحسين القرآنيّ يصون العزّة للمؤمنين
لقد أراد القرآن المجيد أن يهدي المؤمنين إلى الطريق الذي يصون لهم العزّة ويحصّنهم ضدّ الرضا بالهوان أو السكوت على الضيم، فأمرهم بالإعداد والاستعداد لحفظ الكرامة والذود عن العزّة، فقال لهم: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[12]؛ لأنّ القوّة تجعل صاحبَها في موطن الهيبة والاقتدار، فلا يسهل الاعتداء أو التجرّؤ عليه.
وليست هذه دعوة إلى بغيٍ أو طغيانٍ، وإنما يُعوِّدُ القرآنُ أتباعَه أن يكونوا على حيطةٍ وحذرٍ، فيقوّوا أنفسهم ويحصّنوها، حتّى يكونوا أصحاب رهبةٍ في نفوس أعدائهم، وإلّا تطاولوا عليهم وعصفوا بهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا﴾[13].
وهذا ما جسّده الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه في معركة كربلاء، حيث أعدّوا عدّتهم، وقرّروا القتال في مواجهة آلاف الجنود من جيش يزيد، وما هابهم قوّة ذلك الجيش؛ لأنّ تربيتهم حسينيّة على هدي القرآن الكريم، فخاضوا المعركة وقلوبهم ملؤها العزّة والبطولة، وكانت شهادتُهم شهادةً شمخت بها رؤوس المسلمين جميعاً على مرّ التاريخ، وبهذا أصبح: «كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء».
وعليه، وفي كلّ وقت يلتقي المؤمنون في معركةٍ مع الكافرين، يجب على المؤمن أن يظلّ عزيزاً قويّاً، ثابتاً على مبادئه وعقائده، لا يخيفه ألم، ولا يُضعِفه تعب، ولا تثنيه خسائر، بل يبذل جهدَه وطاقتَه مستخدماً ما كان أعدّه من سلاحٍ وعتادٍ، واثقاً من أنّه مربوط بالله القويّ القادر العزيز. وإذا شاء الله تعالى له لوناً من ألوان الاختبار والابتلاء، تحمّله راضياً صابراً محتفظاً بعزّته وكرامته وشهامته، موقناً بأنّ احتمالَ الألم خيرٌ من التخاذل والاستسلام: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[14].
[1] سورة فاطر، الآية 10.
[2] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، ج8، ص235.
[3] سورة المنافقون، الآية 8.
[4] سورة يونس، الآية 65.
[5] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص22.
[6] الاستقلال هنا طلب القِلّة.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص63.
[8] الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، ص415.
[9] الغضا: شَجَرٌ مِنَ الأَثْلِ، خَشَبُهُ صَلْبٌ جِدّاً، وَجَمْرُهُ يَبْقَى زَمَناً طَوِيلاً لاَ يَنْطَفِئُ.
[10] أبو مخنف الأزديّ، مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، ص179.
[11] المصدر نفسه.
[12] سورة الأنفال، الآية 60.
[13] سورة النساء، الآية 71.
[14] سورة البقرة، الآيتان 155 و156.