بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
جاء في كتابه العزيز: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[1].
إنّ الإسلامَ دينُ تسامحٍ ورحمةٍ وعفو، دينٌ ينبذ كافّة أشكال الإكراه والقسوة، دينٌ يعتمد أسلوب مخاطبة العقول بالحجج والبراهين، والقلوب بالآيات والمواعظ، وكذا كانت سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) في عمليّة تبليغ الرسالة وعلاقاتهم مع الآخرين، وبذلك شهد القرآن الكريم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إذ قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[2]، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[3].
على هذا الأصل، ينبغي أن تكون العلاقات بين المسلمين، فلا بدّ من أن تكون قائمةً على إرادة الخير والرحمة والرأفة؛ إذ إنّ حقيقة الإيمان تستدعي حبَّ الصلاح والهداية للآخرين. وإذا كان هذا هو المطلوب من المسلم تجاه الآخرين عموماً، فكيف به تجاه أخيه، فإنّه يجب أن يكون أشدَّ حبّاً له وودّاً، وأكثر منعاً لأذى الآخرين عنه، فكيف بالأذى الصادر عنه؟! وخيرُ تعبيرٍ عن طبيعة هذه العلاقة وحقيقتها الآيةُ القرآنيّة الكريمة: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[4].
ولقد جهدت الشريعة الإسلاميّة في سبيل جعل معنى الإسلام متلازماً مع الأمان، وفي تجسيد هذه الحقيقة من خلال مظاهر السلوك المتعاون، المتسامح، المحبّ، الودود، الصافح، الغافر، الذي لا يخرجه غضبُه عن طاعة، ولا يدخله في معصية، الذي يكفّ شرَّه عن الناس ويكفيهم مؤونتَه، الهشّ، البشّ... إلى غير ذلك من أنواع السلوك التي تجعل الناسَ في أمنٍ وأمان، بل تجعل الإنسانَ المسلم في نظرهم صورةً من عطاء الخير والجمال. عن الإمام الصادق (عليه السلام): «المسلم مَن سلِم الناس من يده ولسانه، والمؤمن مَن ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم»[5].
لكن ما الذي قد يدعو بعضهم إلى ارتكاب المعصية في استعمال العنف مع الآخرين من أبناء بيئته ومحيطه، على الرغم من تلك الصورة التي يجب عليه تقديمها؟
بعض أسباب ارتكاب العنف
إنّ العنفَ استخدامٌ للقوّة والشدّة والقسوة استخداماً غير مشروع، ومن آثاره إلحاق الأذى الجسديّ أو النفسيّ بالآخرين. ولهذا الأمر أسبابه العديدة، ودوافعه المختلفة، وفي العودة إلى الدين في سبيل تحصيل أسباب ممارسة العنف مع الآخرين، نجد مجموعة من العناوين التي تشكّل مناشئ لذلك، منها:
1. انعدام التقوى
تُعَدّ تقوى الإنسان من أبرز الروادع الذاتيّة عن التعرّض بالأذى للآخرين، كما أنّ انعدامَها من أكبر العوامل المساهمة في ركوب مطيّة الشر إلى أبعد الحدود، وهذه قصّة ابنَي آدم أكبر شاهد على هذه الحقيقة، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾[6]، ثمّ قال تعالى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[7].
2. الغضب
إنّ الغضبَ مفتاحٌ لأعظم الشرور، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «سمعتُ أبي (عليه السلام) يقول: أتى رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) رجلٌ بدويٌّ، فقال: إنّي أسكن البادية، فعلّمني جوامعَ الكلام، فقال: آمرك أن لا تغضب، فأعاد عليه الأعرابيُّ المسألةَ ثلاث مرّات، حتّى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) إلّا بالخير. قال: وكان أبي يقول: أيُّ شيء أشدّ من الغضب؟! إنّ الرجلَ ليغضب، فيَقتُل النفسَ التي حرّم الله، ويقذف المُحصَنة»[8].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الغضب يثير كوامنَ الحقد»[9]، وإنّ الحقد يشكّل دافعاً قويّاً للمرء للإسراع بردّات الفعل، ويجعلها أكثر عنفاً.
وعنه (عليه السلام): «الغضب شرّ، إنّ أطعته دمّر»[10]، وإنّ من أبرز مصاديق الدمار العنفَ الذي يُلحق الأذى بالنفس والغير، ويصبح كرةَ ثلجٍ متدحرجة، لا يُحصَر ضررها، وناراً يصعب إطفاؤها، وقد تودي بصاحبها إلى القتل في الدنيا ودخول النار في الآخرة، فعنه (عليه السلام): «مَن أطلق غضبَه، تعجّل في حتفه»[11].
3. الحدّة في المعاملة
الحدّة ضربٌ من ضروب الغضب، فإذا تكرّرت، ولم يعمل المرء على مواجهتها وإيلائها اهتماماً كافياً، استحكمت، وتحوّلت إلى طبع مُنفِّر. وعند ذاك تصبح معاملة صاحبها مع الآخرين على وفقها مدعاةً لاستدراج ردّات فعلٍ مشابهة، ولا سيّما عند مَن يماثله في الطبع. وذلك من أسباب وصول الأمور إلى الأذى وممارسة العنف المتطوّر، من الكلام، إلى الحركات، فاستعمال اليد... عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ؛ لأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ، فَجُنُونُه مُسْتَحْكِمٌ»[12]؛ أي إنّها تؤدّي إلى الغضب الشديد الذي يفقد المرء معه صوابَه وعقلَه، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّة له: «إياك والغضب؛ فأوّله جنون وآخره ندم»[13]؛ أي إنّ أوَّله حدّةٌ في التعامل، وآخرَه يدفع إلى الندم؛ لأنّ المرءَ معه يفقد عقلَه، وعند فقدان العقل قد يرتكب المرء ما يندم عليه، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من لم يملك غضبَه، لم يملك عقلَه»[14].
خاتمة
إنّ ما نراه اليوم في واقعنا من تفشٍّ للعنف يصل حدّ استعمال السلاح، إنما يعبّر عن ضعف ركائز الشخصيّة الإيمانيّة في المجتمع، وهذا ممّا يدعو إلى تركيز المؤمنين أكثر على مراقبة أنفسهم ومحاسبتها، قبل الوقوع في أمور تُفسِد عليهم الدنيا، وتجعلهم يخسرون الآخرة.
[1] سورة المائدة، الآية 30.
[2] سورة آل عمران، الآية 159.
[3] سورة التوبة، الآية 128.
[4] سورة الفتح، الآية 29.
[5] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص239.
[6] سورة المائدة، الآيتان 27 و28.
[7] سورة المائدة، الآية 30.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص303.
[9] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص68.
[10] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج12، ص11.
[11] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص430.
[12] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص513، الحكمة 255.
[13] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج12، ص12.
[14] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص305.