بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وسيّد المرسلين محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): «قال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله): لا يكون العبدُ مؤمناً، حتّى يحاسبَ نفسَه أشدّ من محاسبة الشريك شريكَه، والسيّد عبدَه»[1].
حثّت الشريعةُ الإسلاميّة على محاسبة الإنسان نفسَه في كلّ يوم، على ما عملته من الطاعات والحسنات، وما اقترفته من المعاصي والسيّئات؛ فإن كان عملُها في مرضاة الله وطاعته، شكره على التوفيق إلى الطاعة وما شرّفه به من رضاه، وطلب منه الزيادة؛ أمّا إن كان في معصية الله وغضبه، أنّب نفسَه وقرّعها على انحرافها عن جادّة الحقّ، واستغفر الله تعالى من ذنوبه، وتاب إليه.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[2].
محاسبة النفس تشمل الجميع
وإنّ محاسبةَ النفس ومطالبتَها بأفعالها، لا تنحصر بفئةٍ معيّنة من الناس، بل تشمل الجميع من دون استثناء، فالقرآن الكريم بيّن في آياته أنّه مَن يعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يره، ومَن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره، فكيف لا يحاسب المرءُ نفسَه ويراقب أعماله، وهو يعلم أنّه سيطالَب بها، ويُسأل عنها، ويراها حاضرةً بين يديه! يقول تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[3]. فالخطاب موجّه إلى الناس كلِّهم، والحساب في عالم الآخرة لا ينحصر بشريحةٍ معيّنة دون أخرى؛ لذا علينا جميعاً أن نطالِب نفوسنا بأعمالها ونحاسبَها، متجهّزين بذلك للعرض الأكبر بين يدي الله تعالى، كما عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن تُوزَنوا، وتجهَّزوا للعرض الأكبر»[4].
أهمّيّة محاسبة النفس
إذاً، تظهر أهمّيّة محاسبة النفس وضرورتها في التجهّز للحساب الأكبر، وتأهّب المؤمن واستعداده للوقوف بين يدي الله تعالى ومواجهة حساب الآخرة وأهواله الرهيبة، ثمّ اهتمامه بالتزوّد من أعمال البرّ والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه. وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيّته لعبد الله بن جندب: «يابنَ جندب، حقّ على كلّ مسلمٍ يعرفنا، أن يعرض عملَه في كلّ يوم وليلة على نفسه، فيكون مُحاسِبَ نفسه؛ فإن رأى حسنةً استزاد منها، وإن رأى سيّئةً استغفر منها؛ لئلّا يُخزى يوم القيامة»[5]؛ فالتعليل أو الحكمة التي ذُيّلَت بها الرواية، تشير إلى الغاية والهدف من محاسبة النفس في عالم الدنيا، وفي رواية أخرى يُبيّن (عليه السلام) عِظم المواقف يوم القيامة ومقدارَها، فيقول: «فحاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا عليها؛ فإنّ للقيامة خمسين موقفاً، كلُّ موقفٍ مقدارُه ألفُ سنة»، ثمّ تلا: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾[6]-[7].
بل حثّت الروايات على أن تكون المحاسبةُ اليوميّة همّاً للعبد، وجعلتها من إشارات الخير والصلاح، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): «ابنَ آدم، لا تزال بخير ما كان لك واعظٌ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك...»[8].
كيفيّة المحاسبة
أمّا في كيفيّة المحاسبة، فيعلّمنا أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، وقد سأله رجلٌ: كيف يحاسب الرجلُ نفسَه؟ فقال (عليه السلام): «إذا أصبح ثمّ أمسى، رجع إلى نفسه، فقال: يا نفس، إنّ هذا يوم مضى عليكِ، لا يعودُ إليكِ أبداً، والله تعالى يسألكِ عنه في ما أفنيتِهِ، فما الذي عملتِ فيه؟ أذكرتِ الله أم حمدتِهِ؟ أقضيتِ حوائجَ مؤمنٍ؟ أنفَّستِ عنه كربةً؟ أحفظتِهِ بظهرِ الغيب في أهلِه وولدِه؟ أحفظتِهِ بعد الموت في مخلَّفيه؟ أكفَفتِ عن غِيبة أخٍ مؤمنٍ بفضل جاهكِ؟ أأعنتِ مسلماً؟ ما الذي صنعتِ فيه؟ فيذكرُ ما كان منه؛ فإن ذكر أنّه جرى منه خيرٌ، حمد الله تعالى، وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصيةً أو تقصيراً، استغفر الله تعالى، وعزم على ترك معاودتِه، ومحا ذلك عن نفسه بتجديد الصلاة على محمّد وآله الطيّبين، وعرض بيعة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) على نفسه، وقبوله لها، وإعادة لعن أعدائه وشانئيه ودافعيه عن حقّه. فإذا فعل ذلك، قال الله عزّ وجلّ: لستُ أناقشك في شيءٍ من الذنوب مع موالاتك أوليائي، ومعاداتك أعدائي»[9].
أهمّ ما يجب محاسبة النفس عليه
ثمّة أمور ينبغي الاهتمام بها، وتقديمها في محاسبة النفس ومطالبتها بها؛ لما تشكّله من أساس في نجاة العبد يوم القيامة أو خزيه، نذكر منها:
1. أداء الفرائض: فهي أوّل ما يجدر محاسبة النفس عليه؛ إذ إنّها واجبات فرضها الله تعالى، وأمر الناس بها، كالصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها.
2. الذنوب والآثام والمنكرات: وقد منعَنا اللهُ تعالى من اقترافها واجتراحها. وينبغي هنا الحذر من استصغار الذنوب، أو عدم المبالاة بالصغائر منها، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) نزل بأرضٍ قرعاء، فقال لأصحابِه: اِئتوا بحطبٍ، فقالوا: يا رسولَ الله، نحن بأرضٍ قرعاء، ما بها من حطب! قال: فليأتِ كلُّ إنسانٍ بما قدَر عليه، فجاؤوا به، حتّى رمَوا بين يديه بعضَه على بعض، فقال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله): هكذا تجتمع الذنوب، ثمّ قال: إيّاكم والمحقَّرَاتِ من الذنوب؛ فإنّ لكلِّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبَها يَكتُب ﴿مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[10]»[11].
3. تضييع فرصة العمر: إذ إنّه الوقتُ الذي مَنَّ اللهُ به على العبد، ولا يستطيع الإنسانُ إطالةَ أمده، وتمديدَ أجله المقدَّر المحتوم، يقول تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾[12]، كما يستحيل استردادُ ما تصرّم من العمر؛ من أجل ذلك حثّت الروايات على ضرورة اغتنامه وصرفه في ما يوجِب نجاةَ الإنسان وسعادتَه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنمّا الدنيا ثلاثة أيّام: يومٌ مضى بما فيه فليس بعائد، ويومٌ أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه، ويومٌ لا تدري أنت من أهله، ولعلك راحلٌ فيه؛ أمّا اليوم الماضي فحكيمٌ مُؤدِّب، وأمّا اليوم الذي أنت فيه فصديقٌ مودِّع، وأمّا غداً فإنّما في يديك منه الأمل»[13].
ورُوي أنّه جاء رجلٌ إلى عليّ بن الحسين (عليهما السلام) يشكو إليه حالَه، فقال: «مسكينٌ ابنُ آدم، له في كلِّ يومٍ ثلاث مصائب، لا يعتبِر بواحدةٍ منهنّ، ولو اعتبر لهانَت عليه المصائب وأمر الدنيا؛ فأمّا المصيبة الأولى، فاليوم الذي ينقص من عمره». قال: «وإن ناله نقصانٌ في ماله اغتمَّ به، والدرهم يخلف عنه، والعمر لا يردّه شيء. والثانية: أنّه يستوفي رزقَه، فإن كان حلالاً حُوسِبَ عليه، وإن كان حراماً عُوقِب عليه». قال: «والثالثة أعظم من ذلك». قيل: وما هي؟ قال: «ما من يومٍ يُمسي، إلّا وقد دنا من الآخرة رحلةً، لا يدري على جنّةٍ أم على نار»[14].
[1] السيّد ابن طاووس، محاسبة النفس، ص14.
[2] سورة الحشر، الآية 18.
[3] سورة الكهف، الآية 49.
[4] السيّد ابن طاووس، محاسبة النفس، ص13.
[5] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص301.
[6] سورة السجدة، الآية 5.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج8، ص143.
[8] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص115.
[9] التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ (عليه السلام)، ص39.
[10] سورة يس، الآية 12.
[11]الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص288.
[12] سورة الأعراف، الآية 34.
[13] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج70، ص111.
[14] الشيخ المفيد، الاختصاص، ص342.