بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، نرفع أسمى آيات العزاء، بذكرى رحيل خير خلق الله الرسول الأعظم محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وشهادة حفيدَيه الإمامين المجتبى والرضا (عليهما السلام).
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله: مقامي بين أظهرِكم خيرٌ لكم، فإنّ الله يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾[1]، ومفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم. فقالوا: يا رسول الله، مقامُك بين أظهرِنا خيرٌ لنا، فكيف تكون مفارقتُك خيراً لنا؟! قال: أما إنّ مفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم، فإنّ أعمالَكم تُعرَض عليَّ كلَّ خميسٍ واثنين، فما كان من حسنةٍ حمدتُ اللهَ عليها، وما كان من سيئةٍ استغفرتُ اللهَ لكم»[2].
هو محمّد بنُ عبد الله بنِ عبد المطّلب، خير خلق الله أجمعين، وخاتم النبيّين، وسيّد المرسلين. وُلد (صلّى الله عليه وآله) في السابع عشر من ربيع الأوّل عام الفيل، ثمّ استُرضِع في بني سعد، ورُدّ إلى أمّه، وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره. توفّيت أمّه حين بلغ السادسة من عمره، فكفله جدّه، وبقي معه سنتين، ثمّ ودّع الحياة بعد أن أوكل أمر رعايته إلى عمّه أبي طالب. بقي مع عمّه إلى حين تزوّج من السيّدة خديجة، وهو في ريعان شبابه. عُرف بالصادق الأمين، وقد ارتضته القبائل المتنازعة لنصب الحجر الأسود لحلّ نزاعها، فأبدى حنكةً وإبداعاً، أرضى به جميع المتنازعين. حضر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حلف الفضول بعد العشرين من عمره، وبُعث بالرسالة وهو في الأربعين، وبعد مضيّ ثلاث أو خمس سنوات من بداية الدعوة إلى الله، أمره الله بإنذار عشيرته الأقربين، ثمّ أمره بأن يصدع بالرسالة، ويدعو إلى الإسلام علانية. أسّس النبيّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله) أوّل دولة إسلاميّة، فأرسى قواعدَها طيلة السنة الأولى بعد الهجرة، وبنى المسجد النبويّ الذي كان مركزاً لدعوته وحكومته... وكان العامُ العاشر عامَ حجّة الوداع، وآخرَ سنة قضاها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مع أمّته، وهو يمهّد لدولته العالميّة. ورحل (صلّى الله عليه وآله) في الثامن والعشرين من شهر صفر، في السنة الحادية عشرة للهجرة، بعد أن أحكم دعائم دولته الإسلاميّة، مُنصِّباً لها بأمرٍ من الله تعالى القيادةَ المعصومةَ التي تخلفه، والمتمثّلة بشخص أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
نالَت هذه الشخصيّة العظيمة الشمائلَ والخلالَ النبيلة، والقيم الإنسانية العليا، وحرّرت الإنسان ورفعت عنه إصر عبوديّاتٍ وأغلالٍ كثيرة، كانت وما زالت منتشرة في العالم. لقد اكتملَت في شخصيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الأخلاق الحميدة كلّها، وانتفت منها الأخلاق الذميمة كلّها، فوصفه ربّه تعالى قائلاً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[3]. وبذلك شكّلَت حياتُه (صلّى الله عليه وآله) المثلَ الأعلى للإنسانيّة في جميع أحوال الحياة وأوجهها؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجيّة، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، فمحمّد (صلّى الله عليه وآله) هو المثل الكامل، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[4].
وفي ما يأتي نذكر غيضاً من فيض، ممّا يدلّ على عظم هذا الإنسان ومكانته:
1. في طهارة مولده (صلّى الله عليه وآله) واسمه الشريف
قال جلّ وعلا في نبيّه (صلّى الله عليه وآله): ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾[5]، قيل في معناه: وتقلّبك في أصلاب الموحّدِين، من نبيٍّ إلى نبيّ، حتّى أخرجك نبيّاً... وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله [الإمامَين الباقر والصادق] صلوات الله عليهما، قالا: «في أصلاب النبيّين، نبيٍّ بعد نبيّ، حتّى أخرجه من صلب أبيه، من نكاح غير سفاح، من لدن آدم (عليه السلام)»[6].
وقد روى أبو ذرّ الغفاريّ (رحمه الله)، قال: سمعتُ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو يقول: «خُلقتُ أنا وعليّ بن أبي طالب من نورٍ واحد، نسبّح الله يمنةَ العرش، قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمّا أن خلق الله آدم، جعل ذلك النور في صلبه... فلم يزل ينقلنا الله عزّ وجلّ من أصلابٍ طاهرة إلى أرحامٍ طاهرة، حتّى انتهى بنا إلى عبد المطّلب، فقسمنا بنصفين، فجعلني في صلب عبد الله، وجعل عليّاً في صلب أبي طالب، وجعل فيَّ النبوّةَ والبركة، وجعل في عليٍّ الفصاحةَ والفروسيّة، وشقَّ لنا اسمين من أسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمّد، والله الأعلى وهذا عليّ»[7].
2. في عبادته وقربه من الله تعالى
إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو أعظم مَن جسّد العبوديّة لله تعالى، حتّى أنّنا في تشهّد صلاتِنا اليوميّة نقدّم مقام العبوديّة على مقام الرسالة، فنقول: أشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، ولشدّة تعبه واجتهاده في العبادة، أنزل الله تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[8]، وفي تفسير هذه الآية يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولقد قام (صلّى الله عليه وآله) عشر سنين على أطراف أصابعه، حتّى تورّمَت قدماه واصفرّ وجهه، يقوم الليل أجمع، حتّى عوتب في ذلك، فقال الله عزّ وجلّ: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، بل لتسعد»[9].
وقد تجلّت عبوديّته في قوله وسلوكه، حتّى قال: «يا أبا ذرّ، إنّ الله تعالى جعل قرّةَ عيني في الصلاة، وحَبّبها إليَّ كما حَبّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، فإنّ الجائعَ إذا أكل الطعامَ شبع، وإذا شرب الماء رَوِيَ، وأنا لا أشبع من الصلاة»[10].
وممّا يدلّ على عظم مكانته وقربه من الله تعالى، ما رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «لمّا عُرج برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، انتهى به جبرائيل إلى مكانٍ فخلّى عنه، فقال له: يا جبرائيل، تُخلّيني على هذه الحالة؟! فقال: امضِهْ[11]، فوالله لقد وَطِئتَ مكاناً ما وطِئَهُ بشرٌ، وما مشى فيه بشر قبلك»[12].
3. قبسٌ من سلوكه وصفاته
أ. رحمته ورأفته
لقد تجلّت الرحمة في سلوكه وتصرّفاته، فكانت من أبرز أخلاقه وخصاله (صلّى الله عليه وآله)، وقد وصفه الله في القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[13]، وقال أيضاً: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[14].
ومن تجلّيات رحمته (صلّى الله عليه وآله)، أنّه نزل جبرئيل عليه يوم كُسِرَت رُباعيّته، فقال: يا محمّد، أقلِبُها عليهم؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّما بُعثتُ رحمةً، ولم أُبعَث عذاباً»[15].
ب. تواضعه
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إذا سُئل شيئاً؛ فإذا أراد أن يفعله، قال: نعم، وإذا أراد أن لا يفعل سكت، وكان لا يقول لشيءٍ لا»[16].
وممّا يدلّ على تواضعه، ما عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما أكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متّكئاً منذ بعثه اللهُ عزّ وجلّ إلى أن قبضَه، وكان يأكل أكلة العبد، ويجلس جِلسة العبد»، قال الراوي: ولِمَ ذلك؟ قال (عليه السلام): «تواضعاً لله عزّ وجلّ»[17].
ج. علاقته بأصحابه
أمّا علاقته بأصحابه، فقد ذكرها الله تعالى في كتابه، فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[18]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) يقسّم لحظاتِه بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة»، وقال: «ولم يبسط رسولُ الله رجليه بين أصحابه قطّ، وإن كان ليصافحه الرجل، فما يترك رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) يدَه من يده حتّى يكون هو التارك...»[19].
[1] سورة الأنفال، الآية 33.
[2] عليّ بن إبراهيم القمّيّ، تفسير القمّيّ، ج1، ص277.
[3] سورة القلم، الآية 4.
[4] سورة الأحزاب، الآية 21.
[5] سورة الشعراء، الآية 219.
[6] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج7، ص358.
[7] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص134.
[8] سورة طه، الآيتان 1 و2.
[9] الشيخ المفيد، الاحتجاج، ج1، ص326.
[10] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص528.
[11] الهاء للسكت.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص442.
[13] سورة الأنبياء، الآية 107.
[14] سورة آل عمران، الآية 159.
[15] محمّد بين سليمان الكوفيّ، مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ج1، ص486.
[16] الروانديّ، الدعوات (سلوة الحزين)، ص40.
[17] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج6، ص270.
[18] سورة التوبة، الآية 128.
[19] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص671.