بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ اللهَ كتب القتلَ على قومٍ والموتَ على آخرين، وكلٌّ آتيةٌ منيّتُهُ كما كتب اللهُ لكم، فطوبى للمجاهدين في سبيلِ الله والمقتولين في طاعتِه»[1].
إنّ المعرفة والوعي والبصيرة، هي من أهمّ الصفات التي ينبغي للمسلم أن يتمتّع بها؛ إذ إنّها تشكّل تلك القدرة التي تمكّن صاحبَها من اتّخاذ القرارات الصائبة في أمور حياته، فيتعامل معها بحكمة ورويّة، تدفعان عنه عواقب السوء. وتزداد البصيرة أهمّيّةً وضرورةً في مواطن الخطر ومكامن التهديد؛ إذ إنّ في هذه الدنيا أحداثاً ومواقف، يتعرّض لها المرء، قد تطاله في عقيدته ودينه، في عرضه ونفسه، في ماله وممتلكاته... فهنا، ينبغي أن يكون أشدّ حذراً وأكثر وعيّاً وأعمق بصيرةً؛ فساحات الجهاد والمواجهة تترتّب عليها آثار وتبعات عظيمة، وقد تكون عواقبُها وخيمة؛ لذا يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) حالَ المجاهدين مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فيقول: «حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ، ودَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ»[2]. فالبصيرة ينبغي أن تُحمَل مع السيف، ولا تنفكّ عنه، وللبصيرة في أمور الجهاد أسسها وثوابتها ومنطلقاتها التي ينبغي الاستناد إليها، نذكر منها:
1. الإيمان بالله سرّ القوّة والثبات
إنّ هذا العالم كلّه هو فيضٌ من فيوضات الله وألطافه، بل إنّ ديمومة الحياة والوجود مرتبطة به تعالى، لحظةً بلحظة؛ إذ هو الخالق، ولا منبع للقدرة والكمال سواه، ولا مُعتمَد غيره، ولا ناصر للمؤمنين والمجاهدين في سبيله سواه.
وإنّ من أكثر الناس إيماناً بهذه العقيدة المجاهدَ في سبيل الله، هذا الإنسان المستعِدّ لترك الدنيا وما فيها من زخارف ومباهج ومغريات وملذّات، والسعي لتحصيل مرضاة الله، مُشتاقاً إلى لقائه، لا يبتغي سواه، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفً﴾[3].
إنّ مثل هذا المجاهد، لا يتوكّل إلّا على الله، فهو نعم المولى ونعم النصير، ولا يستمدّ العون من أحدٍ سواه؛ إذ إنّ ما في هذا الوجود كلّه خاضعٌ لإرادته سبحانه، فالمجاهد من أكثر الناس رضا بقضاء الله وقدره، يقول تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[4].
من هنا، وانطلاقاً من هذا الأساس، ونظراً للبصيرة التي ينبغي أن يتمتّع بها هؤلاء المجاهدون، فإنّهم يكونون أبعد الناس عن المفاسد الأخلاقيّة، من عجبٍ وغرور وما شاكل؛ وذلك لمعرفتهم الفعليّة بأنّ الأمور كلّها بيد الله تعالى، وأنّ الأسباب والنتائج هي تحت نظره وسلطته سبحانه، وأنّهم وسائط ينفّذون إرادة الله ومشيئته، يعتقدون فعلاً بمضمون قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[5].
2. النظرة الصحيحة للموت والشهادة
في عقيدتنا أنّ الموتَ جسرُ عبورٍ من هذه الدار الفانية إلى الدار الخالدة، والمجاهد ينظر إلى هذه الحياة في ضوء هذه العقيدة، فلا يخشى الموت، بل يستقبله بشوقٍ إذا ما تتطلّب الواجب منه ذلك. قد أعدّ نفسه لأيٍّ من أنواع الموت، ولكنّ عشقه أن يكون خروجه من هذه الدنيا عن طريق الشهادة، وأن تُختَم حياته بهذا الشرف العظيم، الذي يعبّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن شوقه له، فيقول: «إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ. والَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِه، لأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّه»[6]، وفي عهده إلى مالك الأشتر، يسأل (عليه السلام) اللهَ لنفسهِ ولصاحبه مالك الأشتر الشهادةَ في سبيله، فيقول: «وأَنَا أَسْأَلُ اللَّه بِسَعَةِ رَحْمَتِه وعَظِيمِ قُدْرَتِه عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَنِي وإِيَّاكَ لِمَا فِيه رِضَاه... وأَنْ يَخْتِمَ لِي ولَكَ بِالسَّعَادَةِ والشَّهَادَةِ»[7].
وإنّ التسابقَ إلى الشهادة ناشئٌ من إدراك هذه الحقيقة، ألا وهي أنّها أفضلُ أنواع الموت بين يدي الله سبحانه، وهذا ما عبّرت عنه السيّدة زينب (عليها السلام) في كلامها على شهادة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، إذ بيّنت حقيقة نظرة المؤمن إلى الشهادة، فقالت: «ما رأيتُ إلّا جميلاً»[8].
3. عدم الخوف من قوّة العدوّ
ممّا لا شكّ فيه، أنّ أعداء الحقّ وأنصار الباطل كُثر عبر التاريخ، ولديهم قوّة مادّيّة عالية وعتاد كبير، وهذا الأمر من العوامل الفاعلة التي يمكن أن تؤدّي إلى الفشل أحياناً، وكثيراً ما يستفيد العدوّ من الدعاية الإعلاميّة والحرب النفسيّة للوصول إلى غاياته المنشودة، وإلحاق الهزيمة بأنصار الحقّ.
ولكن، وفي تاريخ الإسلام، نجد أنّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) قَلَب هذه المعادلة، وبيّن إمكانيّة التغلّب عليها وتغييرها، وذلك من خلال الوعي والبصيرة والصبر والتحمّل، فهذه معركة بدر، التي كان عدد جيش المسلمين فيها 313 رجلاً مقابل ألفٍ من المشركين تقريباً، ومع ذلك جاء الأمر الإلهيّ ليقول لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾[9]، وكذا الأمر في معركة أحد، فقد كان عمدة جيش المشركين ثلاثة آلاف مقاتل، فيما كان المسلمون سبعمئة تقريباً، أمّا في الخندق، كان عدد المشركين يزيد على عشرة آلاف مقاتل، بينما لم يتجاوز عدد المسلمين ثلاثة آلاف. لكنّهم لم يهابوا كثرة الأعداء، ولم يخشَوا قوّتهم على الإطلاق، بل زادهم الأمر بأساً وتوكّلاً على الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[10].
4. معرفة حقيقة النصر
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[11]، وفي هذه الآية دلالة واضحة على أنّ تحقّق النصر الإلهيّ شرطه الأوّل والأساس هو نصرة دين الله من خلال العمل الصالح والطاعة والالتزام بالتكاليف الشرعيّة التي يحدّدها الله أو وليّه في الأرض بجدٍّ وإخلاص وتفانٍ، والنتيجة: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾[12].
إنّ المجاهدَ ينطلق من هذا المبدأ وهذا الأصل، إذ إنّه هو الأساس والحاكم في المسيرة الجهاديّة، ألا وهو الطاعة والعبوديّة لله سبحانه وأداء التكليف الشرعيّ، بصرف النظر عن النتائج؛ لأنّ النصر الحقيقيّ يكمن في التزام هذا الأصل، ونيل رضا الله عزّ وجلّ.
من هنا، ينبغي التنبّه إلى أنّ المجاهد إن قصّر في أداء تكليفه وبلوغ رضا الله سبحانه، فهو مهزوم، وإن تمكّن من الانتصار المادّيّ على العدوّ؛ لأنَّ امتحان الله لنا، إنّما هو في عبوديّتنا الخالصة له من دون شائبة.
وبناءً عليه، إنّ المجاهدَ الحقيقيّ يرى نفسه منتصراً دائماً، ولا وجود للهزيمة في قاموسه، فالله وعد المجاهدين بفضلٍ منه وقوّة، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[13]، وهذا العلوّ متحقّق حتماً، سواء أكان في النصر والغلبة على الأعداء أم في الشهادة التي يرجوها خاتمةً لحياته.
في الختام، إنّ هذه الثوابت والركائز والمنطلقات، كانت المبادئ الأساسيّة لشهدائنا الأبرار، الذين قدّموا دماءهم وأرواحهم في سبيل الله، حفظاً لدينه وعباده، ودفعاً لظلم أعدائه، قدّموا أرقى أنواع البرّ والمعروف، وهم على بصيرةٍ من أمرهم، ومعرفةٍ يقينيّة بما ادّخره الله لهم عنده من النعيم الأبديّ الذي يُغبَطون عليه.
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج32، ص403.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص209، الخطبة 150.
[3] سورة النساء، الآية 76.
[4] سورة التوبة، الآية 51.
[5] سورة الأنفال، الآية 17.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص180، الخطبة 123.
[7] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص445، الكتاب 53.
[8] ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، ص71.
[9] سورة الأنفال، الآية 65.
[10] سورة آل عمران، الآية 173.
[11] سورة محمّد، الآية 7.
[12] سورة آل عمران، الآية 160.
[13] سورة آل عمران، الآية 139.