بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين.
عن الإمام عليّ الهادي (عليه السلام)، أنّه قال للمتوكّل العبّاسيّ في جوابِ كلامٍ دار بينهما: «لا تطلبِ الصفا ممّن كدَّرتَ عليه، ولا الوفاءَ ممّن غدرتَ به، ولا النصحَ ممّن صرفتَ سوءَ ظنِّك إليه؛ فإنّما قلبُ غيرِكَ لكَ كقلبِكَ له»[1].
اهتمّ الأئمّةُ الأطهارُ (عليهم السلام) بإرشاد الناس وهدايتهم، وتربية أتباعهم على الإيمان والتقوى والعمل الصالح. وقد أولَوا العلاقاتِ الإنسانيّةَ والاجتماعيّةَ عنايةً خاصّة، فأسّسوا لبنائها، وحثّوا على إصلاحها، وتضمّنت وصاياهم (عليهم السلام) القواعدَ والأسسَ التي ينبغي أن تحكمَ هذه العلاقات، ليسيرَ الناسُ في هديها.
وقد كانت سيرةُ الأئمّة (عليهم السلام) توجيهَ النصح والحكمة والموعظة للناس جمعياً، من مواليهم أو من أعدائهم، صغاراً أو كباراً، سواءٌ أكانوا من أصحاب السلطة والمال والجاه والنفوذ، أم من عموم الناس، وبهذا كان الإمام الهادي (عليه السلام) يوجّه وعظَه ونصيحتَه وإرشادَه حتّى إلى مُتولّي السلطة، والمستولي على الخلافة في ذلك الزمان؛ أي المتوكّل العبّاسيّ، والذي كان معروفاً بقسوته وشدّته وظلمه وبطشه، وكذلك بعداوتِه وبغضِه لأهل البيت (عليهم السلام)، محاولاً الإمام الهادي (عليه السلام) بذلك إلقاءَ الحجّة عليه، علّه يحدّ من ظلمه للناس، واضطهاده لهم.
المعاملة بالمثل
بيَّنَ الإمام الهادي (عليه السلام) في هذه الموعظة المبدأَ الأساسَ في العلاقات، ألا وهو مبدأ المعاملة بالمثل؛ إذ ينبغي على المرء أن يعاملَ الآخرين كما يحبّ أن يعاملوه، وهذا ما يشير إليه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته لابنِه الإمامِ الحسنِ (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِي مَا بَيْنَكَ وبَيْنَ غَيْرِكَ؛ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، واكْرَه لَه مَا تَكْرَه لَهَا، ولَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، واسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُه مِنْ غَيْرِكَ، وارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاه لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ»[2]، فالنفس ميزانٌ في التعامل، فلا يمكن للمرء أن يطلبَ من الآخرين المعاملةَ بالحسنى وهو يُسيءُ إليهم، أو أن يُعتنى به وهو لا يوليهم أيَّ اهتمام، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن عاملَ الناسَ بالجميل، كافؤوه به»، و«مَن أحسنَ إلى الناس، استدامَ منهم المحبّة»[3].
من هنا، وانطلاقاً من هذا المبدأ، يضع الإمامُ الهادي (عليه السلام) ثلاثَ نقاطٍ تترتّب على مبدأ المعاملة بالمثل:
1. لا تطلبِ الصفا ممّن كَدَّرتَ عليه؛ فالإنسان يعمد بطبعه إلى مبادلة الإساءة بالإساءة. نعم، يجب على الإنسان أن يتغلّبَ على هذا الطبع، ويسيطرَ عليه، فيتخلَّقَ بالعفو والتسامح مع مَن ظلمه، ويتجاوزَ عن الإساءة، بل ويقابله بالحسنى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ثلاثٌ من مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمّن ظلمَك، وتصِل مَن قطعَك، وتحلُم إذا جُهِل عليك»[4]. ولكن ليس من حقّ المسيء أن يطلبَ ممّن أساء إليه مادّيّاً أو معنويّاً أن يقابلَه بالإحسان، وأن يلومَه إن لم يُحسِنِ أو إن أعرض عنه، فهو لم يكن معه كما يريده أن يكون.
2. ولا الوفاءَ ممّن غدرتَ به، فإنّ الغدرَ صفةُ الخائن العاجز، الذي لا يجد وسيلةً للوصول إلى مآربِه إلّا من خلال الخيانة، وهو شيمةُ اللئام وأقبحُ الخيانة، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إيّاك والغدر، فإنّه أقبحُ الخيانة، وإنّ الغَدورَ لَمُهانٌ عند اللهِ بغدرِه»[5].
وهنا يشير الإمامُ الهادي (عليه السلام) إلى أنّ الإنسانَ الذي يلجأ إلى الغدر ليس له أن يتوقّعَ من الآخرين الوفاء، بل إنّه في بعض المواطن يكون الوفاءُ لأهل الغدر مذموماً، كما «إذا كان بينهما عهد ومشارطة، فغدر أحدُهما وخالف شرطَه، فيجوز للآخر نقضُ العهد أيضاً، ولا يجب له الوفاء، بل يكون وفاؤه في حقّه غدراً قبيحاً، وغدرُه وفاءً متّصفاً بالحسن»[6]، وفي هذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْوَفَاءُ لأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللَّه، والْغَدْرُ بِأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللَّه»[7].
إنّ الذي يقع في الغدر هو الذي يفتح البابَ أمام مبادلة الآخرين له بذلك، فعليه أن يلومَ نفسَه، وأن يعلم عاقبةَ فعلِه، فإنّه إن صدر الغدرُ منه اليوم فقد يقعُ عليه غداً.
3. ولا النصحَ ممّن صرفتَ سوءَ ظنِّك إليه، فإنّ الإنسانَ مهما بلغَت به التجارب والكمالات، لا يمكنه الاستغناءُ عن نصيحة مَن حوله، إذ قد تخفى عليه بعض الأمور، فيتّخذ قراراً غيرَ صائب، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِه هَلَكَ، ومَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا»[8]، فالنصيحةُ أمرٌ ممدوح، حثَّت عليها رواياتُ أهلِ العصمة (عليهم السلام)، وحثَّت على الاستماعِ إليها والقَبولِ بها، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «طوبى لِمَن أطاع ناصحاً يَهديه، وتجنَّب غاوياً يُرديه»[9].
لكن عندما تُطلَب النصيحةُ، ينبغي أن يُحسَنَ اختيارُ الإنسان المناسب؛ فلا ينبغي اختيارُ الحاسد مثلاً، فإنّه لا يريد الخير، بل يتمنّى زوالَ النعمة عن الآخرين، ولا تُطلَب النصيحةُ من جاهل، لأنّه يرديك وهو لا يدري، وكذلك لا تُطلب النصيحة من شخصٍ ثمّة سوءُ ظنٍّ به، إذ لا يُعلَم أنّه يريد الخيرَ للمُستنصِح أو لا.
حقّ الناصح
وإنّ للناصح حقّاً على المستنصِح لا ينبغي تجاوزُه، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: «وَحَقُّ النَّاصِحِ أَنْ تُلِينَ لَهُ جَنَاحَكَ، وَتُصْغِيَ إِلَيْهِ بِسَمْعِكَ، فَإِنْ أَتَى بِالصَّوَابِ، حَمِدْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ رَحِمْتَهُ، وَلَمْ تَتَّهِمْهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، وَلَمْ تُؤَاخِذْهُ بِذَلِكَ»[10]، فالناصح قد يصيب وقد يخطئ، ولا ينبغي اتّهامُه بشيءٍ إذا أخطأ، فيُظنُّ به أنّه لا يريد الخيرَ للمُستنصِح، أو أنّه غشَّ في نصيحتِه، فكثيراً ما يحصل من الإنسان سوءُ ظنٍّ بالناصح إذا لم تكن النصيحةُ موافقةً لهواه أو كانت مخالفةً لرغباتِه، فيبرِّر مخالفةَ النصيحة بأنّ الناصح لا يبتغي الخير له، وقد أشارَت إلى هذا الأمر بعضُ الروايات، وحذّرَت منه، فعن عن الامام الباقر (عليه السلام): «اتَّبِع مَن يُبْكيكَ وهو لك ناصح، ولا تتَّبع مَن يُضْحِكُكَ وهو لك غاشّ»[11].
لذا، ورد أيضاً عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) حثُّ الناصح على الصدق في نصيحته، وأن لا يرى حَرَجاً في أن يكون صريحاً فيها، وإن خالفَت رغبةَ المُستنصِح، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مرارةُ النصحِ أنفعُ من حلاوةِ الغشّ»[12].
قلبُ غيرِكَ لكَ كقلبِكَ له
ثمّ في ختام الرواية، يضع الإمامُ الهادي (عليه السلام) الضابطةَ العامّةَ في معاملة الناس لبعضِهم، والتي تعتمد المقابلةَ بالمثل؛ فإنّ القلوبَ تُقبِل بالمحبّة على مَن أحبّها، وتبتعد مُبغضةً أو لامبالايةً بمَن أبغضها ولم يُعِرها اهتماماً. فالمودّة بين الناس تُعرَف بما تضمره قلوبُهم لبعضها، وقد ورد عن صالح بن الحكم، قال: سمعتُ رجلاً يسأل أبا عبد الله (عليه السلام)، فقال: الرجلُ يقول: أَوَدُّكَ، فكيف أعلم أنّه يَوَدُّنِي؟ فقال (عليه السلام): «امتحِن قلبَك، فإن كنتَ تَوَدُّه فإنّه يَوَدُّكَ»[13].
وفي روايةٍ أخرى عن عبيد الله بن إسحاق المدائنيّ، قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): إنّ الرجلَ مِن عرض الناس (أي من العامّة) يلقاني، فيحلف بالله أنّه يحبّني، فأحلف بالله إنّه لصادق؟ فقال (عليه السلام): «امتحِن قلبَك، فإن كنتَ تحبّه فاحلف، وإلّا فلا»[14].
[1] الحلوانيّ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص142. الديلميّ، أعلام الدين في صفات المؤمنين، ص312.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص397، الكتاب 31.
[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص440.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص107.
[5] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص96.
[6] حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج4، ص198.
[7] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص513، الحكمة 259.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص500، الحكمة 161.
[9] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص313.
[10] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص269.
[11] البرقيّ، المحاسن، ج2، ص604.
[12] الليثيّ الواعظيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص489.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص652.
[14] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص267.