بسم الله الرحمن الرحيم
1- حاكمية الله:
وهي من الأسس الهامة التي تشتق من التوحيد مباشرة، ومنه تشتق الحاكمية والسيادة للإسلام على وجه الأرض، وقد اكد القران وعمق هذا الأصل بقوله تعالى ﴿وهو الذي في السماء اله، وفي الأرض اله﴾.
والإلوهية في الأرض هي الحاكمية والسيادة على حياة الإنسان. فان الله تعالى هو الإله الواحد المهيمن على هذا الكون ولذلك فهو الحاكم والمشرّع في حياة الإنسان، وهو مصدر كل ولاية، وسيادة، وحاكمية في حياة الإنسان، وليس لغيره من دون إذنه ولاية، وحاكمية، وسيادة على حياة الإنسان، وهذا هو معنى توحيد الإلوهية.
واذا آمنا بالخلق والربوبية لله تعالى فلا بد ان نؤمن بألوهيته وحاكميته المطلقة على الإنسان فإذا قلنا إنّ للإنسان خالق فلابد أن ننتهي إلى حاكميته المطلقة على حياته.
وقد أدرك المشركون في أول الدعوة الإسلامية المدلول الحقيقي لكلمة (الإله) و(الرب) التي تعني المدبر الحقيقي للكون والإنسان، وأدركوا كذلك أنّ رسالة هذا الدين في حياة الناس إلغاء كل حاكمية ليس في امتداد حاكمية الله والغاء كل سلطان على حياة الإنسان إلاّ سلطان الله تعالى وما أذن الله تعالى وامر به.
فيلزمهم القران بأن هذه الحاكمية والهيمنة الإلهية على الكون في التكوين تستتبع وتستلزم الاذعان بسلطانه تعالى وسيادته التشريعية في حياة الإنسان. فلا يجوز تفكيك السلطان والحاكمية الإلهية في التكوين عن سلطانه وحاكميته وولايته على الإنسان في التشريع، فله الأمر وله النهي وله الحكم، ولمن اذن الله تعالى به في حياة الإنسان.
وما مهمة الانبياء إلاّ تثبيت الحاكمية الإلهية على الإنسان وإلغاء أية حاكمية أخرى من دون إذن الله.
2- خلافة الإنسان:
اختار الله تعالى الإنسان خليفة له على وجه الأرض. وابلغ ذلك الملائكة، قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة) ومعنى الخلافة واضحة....فان الإنسان يقوم بعمارة الأرض وإصلاحها، وبناء المجتمع وتنفيذ احكام الله تعالى في الأرض، وفي حياة الإنسان خلافة عن الله تعالى... ويكون أداة طائعة لله تعالى في تنفيذ حاكمية الله وسيادته على الإنسان على النهج الذي يامر الله تعالى به.
فهو عامل واع مطيع لله يقوم في الأرض بتحقيق سلطان الله تعالى وسيادته في حياة الإنسان وتنفيذ امره ونهيه في اعمار الإنسان، والإنسان خلافة عن الله والعناصر التي تكون هذه الخلافة هي الوعي والإرادة والطاعة، فاذا اكتملت هذه العناصر في الإنسان كان لله تعالى خليفة على الأرض.
ويتكامل هذان الاصلان. كل منهما يكمل الاخر.... حاكمية الله تعالى في حياة الإنسان وخلافة الإنسان عن الله تعالى على الأرض.
3- الإمامة:
اصطفى الله تعالى للناس ائمة فهم يحكمون الناس ويقودون مسيرة التوحيد باذنه. ومن أولئك ابراهيم (عليه السلام) حيث اختاره الله تعالى اماما للناس. يقول تعالى ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾1.
وقد أولى الله تعالى ابراهيم الامامة بعد أن اختاره نبيا، وخاطبه بهذا الخطاب، وهو نبي ورسول الله، اتاه الله تعالى الوحي، وامره بالتبليغ.. فلما اتم الكلمات واكمل مراحل التكامل آتاه الله تعالى الامامة.
وهي زعامة حركة التوحيد وممارسة الحاكمية والولاية على الناس بامر الله واذنه في امتداد حاكمية الله. وللامامة علاقة واضحة لاتخفى بكل من حاكمية الله وخلافة الإنسان. فهي واسطة العقد بين هذين الاصلين...
هل للإسلام ثقافة إدارية؟:
1- أهمية البحث عن الثقافة الإدارية:
أصبح البحث عن مفردات الإدارة وأخلاقية وثقافة الإدارة في التصور الإسلامي ضرورة لابد منها في عصرنا الحاضر وخاصة بعد دخول الإسلام معترك الحياة فكانت له دولة وكيانات سياسية وحركات وأحزاب ومقاومة ومؤسسات إنسانية عامة وثقافية وإنتفاضات وثورات. فدخل كقوة محركة كبيرة لتحريك وتنوير الشعوب المضطهدة التي تنشد العدالة والحرية والاستقلال.
لقد دخل الإسلام معركة الحضارة ككيان متحدٍّ يرفض الانصياع والذوبان في الكيانات الغربية، وهو يمتلك قدرة عالية على قيادة الشعوب وتحفيزها.
وحان الوقت لكي نبحث في هذه القيادة الإلهية التي تستمد مفرداتها من التصور الإسلامي للإنسان كما أسلفنا.
وحتى لا يكون العمل القيادي عشوائياً، فوضوياً لا يخضع للمبادئ العامة للإدارة الصحيحة، وحتى لا يتخبط القائد في عمله الإداري حينما يتولى مهمته الكبرى في قيادة الجماعة، أو المجتمع، أو إدارة المؤسسة، أو رعاية الأسرة الصغيرة.
نتحدث هنا في باختصار عن المبادئ العامة للثقافة الإدارية في التصور الإسلامي. ونطرح التساؤلات التالية: ما هي الآلية الصحيحة للقائد والتي يتعامل بها مع الكم البشري الذي تحت إمرته؟ ما هي صفات القــائد؟ متى يكون ليناً رحيماً؟ ومتى يكون شديداً حازماً؟ كيف يشرك الناس بالقرار وما هي حدود الشورى؟ كيف يتعامل القائد مع طبقات المجتمع المتنوعة الأهواء والميول؟ ما هي مصادر الطاقة التي يمكن أن تغذي نفسية القائد في خضم المواجهة العنيفة مع الواقع؟ هل هناك تعليمات قرآنية تضمن للقائد الانتصار في مسؤوليته الإدارية؟
إن هذه الثقافة الإدارية البسيطة التكوين العميقة المضمون تسير مع الإنسان في جميع حالاته إبتدءاً من قيادته لنفسه ولأهوائه مروراً برعايته لأسرته إلى قيادة الدولة والمجتمع.
فكل إنسان قائد، ولكن تختلف سعة دائرة القيادة من شخص إلى آخر بحسب اختلاف موقعه وإستعداده النفسي والعقلي. وهذا ما يؤكده الحديث الشريف: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته.
ولاحظ كيف يحاول الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يزرع ويؤكد الروح القيادية بين أفراد المجتمع، لأن الإنسان من خلال ممارسته مسؤوليته القيادية يعبر عن طاقاته المخزونة في شخصيته.
2- العلاقة بين منهج السيادة وثقافة الإدارة:
لأنّ الإسلام دين قيادة وحكم وسيادة فلا يمكن أن تتم هذه العناصر على الأرض ما لم يعط اهتماماً بمقومات ومفردات الإدارة.
ومما لا شك فيه أنّ القيادة وحدها بدون عناصر الإدارة والتنظيم تؤدي إلى تخبط القائد وتشتت الجماعة التي يقودها وبالتالي إسقاط ثقتها بقدرته القيادية.
وإننا إذا قلنا إنّ الحاكمية على الأرض ملازمة للإسلام وإنّ التنازل عن عنصر الحاكمية والقيادية يعني التنازل عن الرسالة نفسها فإنّ هذا يقودنا إلى ضرورة وجود الثقافة الإدارية التنظيمية التي في هذا الدين. وإلاّ فما قيمة الكلام عن القيادة وأهميتها إذا أسقطنا من التفكير أهمية البحث عن مفهوم الإدارة الذي يوجه الحاكمية ويجعلها تسير بالاتجاه الصحيح.
وهذه بعض النصوص القرآنية التي تثبت التلازم بين مفهوم السيادة والحاكمية، حيث يولي القران الكريم اهتماماً واسعاً بتاكيد وتعميق ثقافة القيادة والسيادة والحاكمية في هذا الدين.
يقول تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾2.
ومن المؤكد ان المستضعفين إذا أصبحوا قادة للعالم أو حسب التعبير القرآني (أئمة) فلا بد أن تكون لديهم رؤية واضحة عن كيفية إدارة الأمم التي ستصبح تحت مسؤوليتهم وسلطانهم.
لأنّ الحياة لا قيام لها بعيداً عن التنظيم المنهجي الدقيق حتى أصبحت الأمم تضع الخطط البعيدة الأمد للمشاريع المستقبلية ولسنوات طويلة، وهذه من حسنات الحضارة الإنسانية التي لا يمكن لأحد أن ينكرها. فقد تعلمت هذه الإنسانية بالتجربة المستمرة الطويلة أنّ النجاح الدائم للأفكار يلازم التخطيط الدقيق والإدارة الصحيحة.
وهي إذن لا تقبل بقائد ليست لديه رؤية إدارية واضحة تصل بها إلى شاطئ الأمان.
والمستضعفون الذين سيصبحون حكاماً وائمة على الناس لابد أن يكونوا مؤهلين لذلك تأهيلاً كاملاً.
ويقول تعالى: (واجعلني للمتقين إماماً).
هذا دعاء قرآني في ظاهر الآية ولكنه يتضمن الطبيعة القيادية في هذا الدين. فإنّ الداعي هنا يسأله تعالى أن يكون قائداً للمتقين.
فقد تشبعت في روحه وأعماقه فكرة أنّ الإسلام دين الحاكمية، وأنّ المؤمن مؤهل أكثر من غيره لاحتلال مركز القيادة في المجتمع والعالم.
يذكرنا هذا الدعاء الرقيق بما ورد في دعاء الافتتاح (اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك).
وهنا أيضاً نسأله تعالى أن نكون من القادة بل نسأله التوفيق لهذه النعمة بالرغم من الابتلاءات العسيرة التي تكتنفها.
ويقول تعالى على لسان أنبيائه وهم يخاطبون أقوامهم: (واتقوا الله وأطيعون).
فالنبي القائد هنا يأمر قومه أولاً بتقوى الله ثم بطاعته، لأن هذه التقوى كما أسلفنا تمهد النفوس لتقبل الأوامر والنواهي.
وهذا درس بالغ الأهمية للقادة أن يهذبوا أقوامهم أولاً بالأخلاق العميقة
3- بين الثقافة الإدارية وعلم الإدارة:
إنّ الحديث عن الثقافة الإدارية في الإسلام لا يعني أنّ القرآن سيبحث علم الإدارة بحثاً منهجياً علمياً ولا نتوقع أن نجد المبادئ العامة لهذا العلم في آياته. لماذا؟
لأن ميدان القرآن الأول وموضوعه الأساس هو الثقافة والمعرفة والهداية والدعوة إلى الله.
ورغم كل ما تعرف عليه العلماء من لفتات علمية هامة في القران، وقضايا علمية دقيقة لم يعرفها الإنسان إلاّ في وقت متاخر جدا، مع ذلك فان القران كتاب ثقافة ومعرفة ودعوة وتوحيد، وليس كتابا في العلوم التجريبية والانسانية وغيرها.
فهذه الآيات تحاول إلفاتنا إلى الايات الكونية المحيطة بنا حتى لا يقتل علاقتنا بالكون طول الألفة وتكرار المشاهدة فنمر عليها غافلين نائمين لا تكاد تحرك مشاعرنا ولا تستثير إحساسنا بوجوده تعالى ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾3، ومن دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) (روعتني بعجائب حكمتك وأيقظتني لما ذرأت في سمائك وأرضك، وبدائع خلقك ونبهتني لشكرك وذكرك) فالإشارات العلمية في القرآن لا تتخطى إطاره العام وهو هداية الإنسان.
وعندما نبحث نحن عن الثقافة الإدارية في الإسلام لا نتوقع من القرآن أن يعطينا الأسس النظرية لعلم الإدارة. ان كل ما نطلبه في هذا البحث هو تشخيص ومعرفة الثقافة الإدارية في الإسلام، وليس علم الإدارة.
إننا قد نجد في القرآن لفتات من علم الذرة وأخرى من علم الفيزياء، والكيمياء، و الطب، ولكنها كلها تجري ضمن مناهج الثقافة العقائدية، وكما قلنا يبقى كتاب الله للمعرفة والثقافة والهداية والدعوة إلى الله والتوحيد، وليس كتابا في العلوم الموضوعة من قبل العلماء رغم كل هذه الآيات واهميتها.
لأن هذه العلوم ميدانها الأصيل العقل البشري وقد ترك القرآن هذه المهمة للعقل حتى يكتشف قوانينها ويدون مناهجها ويطورها بالتجربة الدؤوبة المستمرة.
فكان للعقل البشري مجاله المنحصر بالكون والطبيعة والعلوم المختلفة، وللقرآن مجاله الآخر وهو هداية الإنسان وتثقيفه وجعله عبداً لله تعالى وتعريفه بنفسه وبالكون وبالله تعالى.
* الشيخ محمد مهدي الآصفي - بتصرّف
1- البقرة الآية 124
2- القصص الآية 5
3- يوسف الآية 105