كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء النخب وأصحاب المواهب العلميّة المتفوّقة، بتاريخ 17/10/2023م.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا، أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، [ولا] سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أهلا وسهلاً بكم. أنا سعيد للغاية لأنني وفّقت مرة أخرى لعقد هذا الاجتماع مع مجموعة من النخب في البلاد. أتوجّه بالشكر إلى الأصدقاء على المواضيع التي ذكروها[1]. لقد تحدثوا عن مواضيع مهمة وذكروا نقاطاً جديرة بالملاحظة، ولكنني أودّ أن أقول شيئين عن تصريحات السادة.
أحدهما أن هذه القضايا كلها تقريباً - ربما واحدة أو اثنتان استثناء - قضايا تنفيذية، والأمور التنفيذية يجب أن تتابعها الأجهزة التنفيذية. نحن سنتابع طبعاً، وسوف أوصي بهذه الأمور التي ذُكِرت - فلتدوّن وربما تلخّص أو تجري مراجعتها - وسوف ننقلها إلى المسؤولين المعنيين في السلطة التنفيذية، لكن اطرحوها في لقاءاتكم مع المسؤولين التنفيذيين في البلاد - لحسن الحظ لدينا رئيس نشيط، رئيس الجمهورية لدينا مثابر ويتابع الأمور - حتى تتحقق إن شاء الله. هذه نقطة.
النقطة الثانية أنه في مراحل ما كان هناك فجوة كبيرة بين النخب والمسؤولين الحكوميين. المسألة ليست كذلك اليوم. يوجد اليوم عدد كبير من الشباب - ومنهم أنتم وأمثالكم - في إدارات حكومية مهمة، بمستوى وزير أو معاونه، أو في الإدارات الوسطى. فلماذا لا تُنقل إليهم هذه الكلمات؟ الإخوة أنفسهم الذين وقفوا هنا مثلكم وأدلوا بآرائهم يحضرون اليوم في الهيئات الإدارية للبلاد - لا يزالون شباباً وليسوا كهولاً أو كباراً في السنّ، بل هم شبان مثلكم - فلماذا لا يتواصلون بعضهم مع بعض؟ ألا تتشكّل سلسلة؟ ألا تنتقل هذه الكلمات؟ فكّروا في حلّ لهذا الأمر في قطاعات البلاد المختلفة. في ما يخص موضوع السيارات مثلاً هناك كثيرون من الشباب النخبويين الناشطين في وزارة «الصناعة والمعادن والتجارة». اطرحوا موضوع السيارات هناك فهو مهم، أو من قبيل المواضيع الأخرى التي ذُكرت هنا مثل المناطق المحرومة. حسناً، أسّست الحكومة قسماً خاصاً للمناطق المحرومة[2]، ويعمل بعض الشباب هناك. حتى إنني أعتقد أن بعض الطلاب الذين لا يزالون طلاباً ينشطون هناك. فلتطرحوا هذه [المواضيع] معهم. يجب ألا يكون الأمر مجرّد إلقاء خطاب هنا. طبعاً نحن سنرتّب بناء على الأثر، إن شاء الله. سوف أوصيهم بمتابعة الأمر، وسنتابعه، وقد أطرح بنفسي بعض هذه المواضيع مع رئيس الجمهوريّة الموقّر، لكن أعتقد أن عليكم أن تكونوا أكثر عملانيّة في هذه المجالات، رغم أنّ الآراء جيدة جداً.
حسناً، في ما يتعلق بمسألة النخبوية والنخب والتقدم العلمي، دوّنت هنا نقطتين أو ثلاثاً لأشير إليها. النقطة الأولى أنّ النهضة العلمية بدأت في البلاد قبل نحو عقدين أو أكثر بقليل، وكان لها أيضاً انطلاقة جيدة، أي أحدثت تحرُّكاً. أُطْلِق شعاران إلى ثلاثة في الأوساط الطلابية والجامعية من قبيل «تجاوز الحدود العلمية للبلاد» و«الحركة البرمجية». إن بضعة شعارات هذه التي أُطلقت هناك في تلك الأيام أثَّرت بالكامل، أي حدث تحرُّك وغليان في الأوساط الجامعية واستمر أيضاً - لحسن الحظ - أي لم يكن شيئاً يغلي بسرعة ويخبو إنَّما يستمر. في الواقع، انطلقت في البلاد حركة ذات نقلة نوعية على الصعيد العلمي، وهذه حقيقة. بعدما طُرِحت مسألة التطور العلمي والنهضة في مضامير العلم، وأُطلقت شعارات عدة في أوساط المؤسسات الأكاديمية، انطلقت بحقّ نهضة ذات نقلة نوعية، فالمراكز العالمية للتحكيم في مجال القضايا العلمية قالت حينذاك إنَّ سرعة التطور العلمي للبلاد هو ثلاثة عشر ضعفاً أو اثنا عشر ضعفاً لمعدل سرعة التطور العالمي! من الطبيعي أنَّ هذه مسألة مهمة للغاية، وقد تحقق هذا. عرضت أنا العبدَ[3] في تلك الأيام، أي قبل بضع سنوات من الآن، لمسألة في بضع جلسات علمية وجامعية وما شابه، وكنت قد قلتُ إنه يُقال إنَّ سرعة تطورنا العلمي كبيرة لكن علينا ألّا نصير مغرورين بهذا، وهو أنَّ سرعة تطورنا الآن كبيرة إلى هذا الحد، لأنَّه مع وجود سرعة التطور هذه، لا نزال متأخرين في العلم. نحن متأخرون من الناحية العلمية مقارنة بدنيا العلم. بالطبع وضَّحتُ «كوننا متأخرين» هذه في حالات بعينها، ولا أريد بعدُ التكرار أو القول. نحن متأخرون، وسبب «كوننا متأخرين» أنه في مرحلة طويلة خلال عهد حكومة الطواغيت والسلاطين الظالمين والمستبدين - البهلويين أو القاجاريين - كان هذا البلد الذي يتمتَّع بذلك التاريخ العلمي والثقافي في آخر قائمة المرتبة العلمية للعالم. لم يكن يملك شيئاً، ولم يكن شيئاً يُذكر.
أريد اليوم أن أقول هذا: علينا أن نجهِّز أنفسنا للدخول في مرحلة جديدة من النهضة العلمية. صحيح أن النقلة النوعية العلمية تحقَّقت، وكانت جيدة، وقد حصلنا على مراتب علمية عالية في بعض المواضع، ومرتبتنا العلمية في العالم مرتبة جيدة نسبياً - هذا صحيح - لكننا نحتاج اليوم إلى نهضة مبتكرة على يد المؤسسات العلمية للبلاد حتى لا نتخلَّف. لقد انطلقنا لكنَّ الآخرين أيضاً انطلقوا. حتى إنَّ عدداً من دول المنطقة تحفَّزت للتحرك بعد مشاهدة تقدُّم إيران، في حين أنها كانت متخلِّفة. حينما ننظر اليوم إلى الأرقام، نرى أنَّ هؤلاء تقدَّموا كثيراً. ثمة خشية من أن نتخلَّف عن السباق العلمي للعالم. هذه الخشية موجودة بقوَّة. أنتم تعلمون وقد قلتُ مراراً أنا العبدَ: «العِلمُ سُلطانٌ»[4]. إذا أردنا أن تبقى البلاد مُحصَّنة وبمنأى عن الأضرار المعروفة في دول العالم، فالعمل المهم في الدرجة الأولى هو التطور العلمي. وإذا تأخرنا، فسنكون عرضة للضرر. علينا أن نبذل جهداً لكيلا نتخلَّف. هذه المساعي التي نقول بضرورة بذلها لكيلا نتخلَّف تشمل أولاً الاستثمار المادي، أي فلتستثمر الحكومة في مجال المسائل العلمية والتقدُّم العلمي، وقد قلنا مراراً: هذا ليس إنفاقاً إنما استثمار، وفي الواقع هو تمهيد لعوائد مضاعفة: عوائد مضاعفة وبِأُسٍّ مضاعف، وكذلك أن نفرض ونمهِّد كي يستثمر القطاع الخاص في المجال العلمي. إذاً، الاستثمار المادي ضروري كما في أصناف الابتكارات العلمية. فلتسعَ الأوساط العلمية من أجل الابتكار والإبداع وتحرِّي الطرق المختصرة. يجب أن نكرِّس همَّتنا لهذا. ثمَّة ضرورة لاستثمار مزدوج: مادي ومعنوي. بناء عليه كلمتي الأولى هي أنَّ الوسط العلمي للبلاد ونخب البلاد يحتاجون اليوم إلى حركة ونهضة جديدة، وأن تحدث هذه النهضة الجديدة بالاستعانة بمواكبة هذه الحكومة وتعاون المسؤولين الشباب الحاضرين داخل هيكل الحكومة، وهذه همَّتكم يا مجموعة النخب، إذ يحضر منكم الآن ههنا نموذجٌ عن تلك المجموعة. هذه كلمتنا الأولى.
الموضوع الثاني، أو النقطة الثانية، عن الفرصة الحالية لبلادنا. نعم، في وسع شعبٍ يتمتَّع بالموهبة أن يترقَّى لكن ليس الأمر أنه يمتلك دائماً فرصة الترقّي. لا أريد أن يقع سوء فهم في ما يخص المستقبل. لا، في رأيي أنا العبدَ إنَّ المستقبل مستقبل مشرق ويبث الأمل، والأفق أفق مشرق، غير أن تجاربنا أنفسنا وماضينا يقول لنا إن علينا أن نستفيد من الزمن الحالي، وأن نستفيد بأقصى حد من الوضع والفرصة الموجودة. يحدث أحياناً أن تعرض منحدرات حادة لمسير شعبٍ - في كل القطاعات: القطاع السياسي والاجتماعي والعلمي - وتوجد إرادة المضي قدماً والصعود من هذه المنحدرات، إنَّما لا توجد القدرة. يكون الأمر أحياناً كذلك لأنَّ البنى التحتية اللازمة غير موجودة، والإمكانات اللازمة غير موجودة، فالإرادة موجودة والقدرة لا. حتى الإرادة تكون غير موجودة أحياناً بسبب اليأس، وقلة الثقة بالنفس، وقلة الإيمان بالقدرات الذاتية أو فقدان المعرفة بالظرف. بناء عليه تعرض أحياناً حالات تكون فيها حتى إرادة الحركة غير موجودة. حتى أحياناً كما في عهد الطاغوت يرون التقدُّم أو الصعود من هذا المنحدر الحاد غير ممكن أصلاً! حقيقةً وقعت مواقف في عهودنا الماضية كانوا يقولون فيها: أساساً غير ممكن. قصة إبريق الماء الفخاري الخاصة برئيس وزراء زمن الشاه معروفة[5] وقد سمعتموها. حينما بدأ الحديث عن صناعة النفط والاستقلال النفطي للبلاد وتأميم صناعة النفط - قبل أن يأتي مصدِّق إلى الحكم، في عهد طفولتي أنا العبدَ، لكنني أذكر - كان حينذاك في «مجلس الشورى الوطني» أقليَّة بزعامة الدكتور مصدِّق، وكان هؤلاء يصرُّون على أنَّ علينا تأميم صناعة النفط. لقد كان نفطنا بأيدي الإنكليز وكانوا يقولون: فلنُأمِّم هذا. ألقى رئيس وزراء البلاد يومذاك خطبة وقال: ماذا يقول هؤلاء الذين يقولون فلنأمم صناعة النفط؟ وهل في وسع الشعب الإيراني أن يدير النفط؟ نحن ليس في وسعنا صناعة إبريق ماء فخاري بشكل صحيح. أنتم تعلمون ماهية إبريق الماء الفخاري؟ هو إبريق ماء مصنوع من الفخار. كنت قد رأيته. كان القدماء يصنعون في القرى إبريق ماء لا من النحاس أو مثلاً التنك وما شابه وكان متداولاً بل من الفخار. كان يقول: نحن [صناعياً] على مستوى مرشّ ماء فخاري، فهل في وسع الإيراني أن يدير النفط؟ غدا هذا [الكلام] معروفاً آنذاك. فما كان النفط آنذاك الذي كان من المقرر إدارته؟ مصفاة آبادان هذه هي ذلك الشيء الذي كان يجب أن يُدار. كانوا يقولون: ليس في وسع الإيراني بداهةً إدارة المصفاة! لقد كان هذا هو الاعتقاد. حسناً، إذاً تَعْرِضُ مواقف من هذا القبيل. من الطبيعي أنها ليست بتلك الشدة لكنها تضعُف إرادة التحرك في مراحل مختلفة.
إنّني اليوم حين أجوب بنظري في البلاد وعندما أنظر إلى الوضع العام، ألاحظ غياب هذه المشكلات، بفضل الله، أي إنّ إرادة الحركة والقدرة على التحرّك مشهودة. هذه «القدرة» التي أتحدّث عنها ليست شعاراً، فلدينا ملايين عدّة - التفتوا إلى هذه الإحصائيّة! إنّها إحصائيّة واضحة وجليّة - من الشّباب المتعلّمين أو طور التعلّم، ومن الطلّاب الجامعيّين. ملايين عدّة! هل هذه الثروة أمر هيّن؟ إن لم نقل إنّهم جميعاً ذوو دوافع، فسنقول إنّ العديد [منهم] كذلك، وهذه الروحيّة الثوريّة حاضرة في البلاد. هذه الكلمات نفسها التي ألقاها عددٌ من الشباب هنا، إذ قالوا: نحن مستعدّون ولدينا اقتراحات، لها قيمة عالية. إذاً، هناك إرادة ودوافع وإصرارٌ على التقدّم وقدرات أيضاً. حسناً، فلنستفد من هذه الأمور. إذا لم نستفد من فرصة وجود «الإصرار والقدرة» - المتوافرة اليوم - نكون قد ارتكبنا ظلماً. من ينبغي أن يستفيد من هذه الفرص؟ على المسؤولين أن يستفيدوا منها وكذلك النخب والمراكز العلميّة، وإذا لم نستفد منها، فسنكون قد ارتكبنا ظلماً وظلمنا بلدنا وتاريخنا. جميعنا مسؤولون، وأنا العبدَ مسؤولٌ أيضاً، وكذلك المسؤولون الحكوميّون والتنفيذيّون، وأنتم الشبابَ، والوزراء الموقّرون للأجهزة العلميّة، ومن لديهم صلة بالمراكز العلميّة أيضاً ويتولّون المسؤوليّات كذلك. يجب أن نبذل جميعاً الجهود كي تحدث هذه الحركة العلميّة والشيء الجديد الذي أتوقّعه، أي تحرّك ابتكاري ومسارات مختزلة ومختصرة وطفرة ونهضة جديدة، وهذه المسؤوليّة على عواتقنا جميعاً.
بمناسبة ذكر المسؤوليّة، دوّنتُ هنا نقطة ثالثة كي أذكرها، هي أنّ العلم يُلقي بالمسؤوليّة مثل الممتلكات الأخرى كلّها وشأنه شأن الثروات الأخرى كافة. الإمكانات تحمّل المسؤوليّة، الإمكانات الفكريّة والماليّة والقوّة، هذه كلّها تُلقي بالمسؤوليّة. مقابل كلّ إمكانٍ يهبه الله المتعالي لكم يجعل ويحدّد مسؤوليّة، والعلم من بين هذه الإمكانات القيّمة. امتلاككم العلم يجعلكم مسؤولين. ما معنى «يجعلكم مسؤولين»؟ أي يجب أن تستفيدوا من علمكم بما يخدم مصالح الناس وأيضاً لا بدّ أن تسخّروا الشأن الذي يمنحكم إياه هذا العلم من أجل الناس.
قد يتمكّن أحد العلماء أحياناً من توظيف الشأن الذي يملكه في المجتمع ضمن مجال خارج علمه وتخصّصه وبما يخدم مصلحة الناس. هذه مسؤوليّة. فأنتم لو اكتسبتم منزلة علميّة في العلوم النوويّة، أو الطبيّة، أو الفيزياء، أو الإدارة أو أيّ علم آخر، فإنّ هذا يوجب طبعاً مسؤوليّة عليكم في كلا الجانبين. يجب توظيف ذاك العلم في خدمة الناس وكذلك الشأن الذي تكتسبونه من أجل هذا العلم. هذه الجملة المعروفة لأمير المؤمنين (ع) في هذا الصّدد تُنهي الكلام: «وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ»[6]، أي إنّ الله المتعالي أخذ هذا العهد من العلماء بألّا يتحمّلوا في هاتين الحالتين: «کِظَّة ظالم» و«سَغَب مظلوم». يجب ألا نتحمّل جشع الجائر وجوع المظلوم، وألّا یُقِرّوا بذلك. يجب أن نبدي ردّ فعل. اليوم تقع [مسؤوليّة] ردّ الفعل على عاتقنا جميعاً في قضيّة غزّة، فيجب أن نُبدي ردّ فعل. ثمة مجموعة تعاني من الجوع، وأخرى تحت القصف، وآخرون يُستشهدون مئة تلو مئة. وسط هذه الاصطفافات المتعدّدة السائدة على مستوى العالم والبلاد على العالِم - في الجامعة أو الحوزة العلمية - أن يبذل الجهود بداية حتى يعرف الحقّ كي يتّضح ويتحدّد، وأن يقف إلى جانبه. ليس من الجائز على العالِم أن يكتفي بالنظر دون اكتراث وألّا يعير اهتماماً.
النقطة التالية تتعلق بالطريقة العملية الرائجة، وتحدثت عنها مرات عدة، وهي مسألة المقالات العلمية. لقد تحدّثت في هذا الصدد مرتين أو ثلاثاً حتى الآن[7]. تصوّرت أن التوجيهات التي قدمتها من قبل كانت كافية، أي أوفت بالغرض، [لكن] سمعت أن الأمر ليس كذلك. في رأيي إن جعل المقالة العلمية شرطاً لترقية أعضاء هيئة التدريس ليس منطقياً. فلا يمكن للإنسان حقّاً أن يتقبّله. ليس لدي أدنى شك في ضرورة مشاركتنا وحضورنا في المسابقات العلمية في العالم لكن لا أرى من المنطق أن نوجه جميع أساتذتنا وأعضاء هيئة التدريس في جامعات بلدنا إلى أنه إذا كنت ترغب في الترقية، فعليك الذهاب وإجراء امتحان في المجلة الفلانية المعروفة في العالم أو مركز علمي مشهور عالمياً. هذا ما تعنيه كتابة المقالات، أي تحديد رتبتك العلمية وفقاً لرأي مركز معيّن.
نعم، كتابة المقالات أمرٌ جيّد، وأوافق تماماً على إجراء عدد من الأساتذة البارزين في البلاد الأبحاث في مجالات تخصصهم ونشر المقالات الجديرة بالاهتمام في المجلات والمراكز العلمية المرموقة في العالم، لكن أن نجعل المقالة شرطاً للترقية، أي تعميم ذلك على الجميع، فهذا ليس منطقياً في نظري. طبعاً يمكن للمقالات الجيدة أن تعزّز سمعة البلاد ومكانتها العلمية. [لذلك] يجب إيجاد السبل المناسبة وينبغي لأجهزة الإدارة العلمية في البلاد [إيجاد] السبل حتى لا تتدنّى السمعة والمكانة العلمية للبلاد في التصنيف العالمي.
بالنسبة إلى المقالات والأطروحات، قلت مراراً[8] إن هدف المقالات العلمية والأبحاث والأطروحات يجب أن يكون مساعدةَ قضايا البلاد. هذا الهدف الرئيسي. علينا ألا ننسى هذه النقطة التي قلتها قبل بضع لحظات: المشاركة في المسابقات العلمية الدولية ضرورية لكن الهدف الحقيقي أن نحل مشكلة من مشكلات البلاد عبر هذه المقالات والبحث العلمي. هذه القضايا نفسها التي قيلت وطُرحت هنا - البيئة والطب التقليدي وصناعة السيارات - هي قضايا البلاد وهناك المئات من قبيلها، وإذا أردنا حلها عن طريق العلم وبأسلوب علمي، فنحن بحاجة إلى هذه المقالات والأبحاث. إذاً، يجب أن تركّز مقالاتنا وأطروحات طلابنا على هذه المشكلات وأن تحلّها. حقاً المجالات كلها من الصحة والسلامة والمسكن والأمن إلى التغذية والأسرة والبيئة وإلى إصلاح الهياكل الحكومية - إصلاح الهياكل الحكومية! هذا أحد المواضيع - والعلاقات الدولية كلها مجالات للعمل العلمي. هكذا ينبغي أن يكون العمل والبحث العلمي. يجب ألّا يقتصر عملنا على العمل الصحافي - وفق المصطلح الفرنسي «جورناليستي» - فيكتب شخص ما مقالة في إحدى الصحف عن العلاقات الدولية مثلاً أو القضايا السياسية ونحو ذلك. ينبغي ألا نركز على هذا، بل يجب أن يُنجز عمل علمي صحيح.
النقطة الأخيرة في هذا الصدد هي واجب المسؤولين. ولحسن الحظ السادةُ الوزراء والمعاونون المحترمون ورئيس الجمهورية ومختلف المسؤولين حاضرون هنا. ما يمكنني قوله بإيجاز في هذا الصدد: على المسؤولين أن يفعلوا ما من شأنه أن يُشعر النخبة بأنها مفيدة، وأن تشعر بكونها مفيدة. من أسباب هذه الهجرات والمغادرات التي يجري تداولها الآن عبر الأفواه والصحف - يبالغ بعض الأشخاص قليلاً في هذا الصدد - أن هذه النخبة تشعر أن لا عمل لها هنا. لقد قلت في ملاحظات سابقة[9] إن النخبوي لديه توقعان من جهاز إدارة البلاد: الأول أن يكون لديه عمل ويعمل، والثاني أن يتمكن من مواصلة المطالعات والدراسة. من الأمور التي تدفع النخب على المغادرة أن هناك إمكانية للأبحاث والتقدم ونحو ذلك، فلنوفر لهم هذه الإمكانية للعمل هنا. أريد أن أقول اليوم: [إذا] لخصنا توقعات النخبة، تكون [الخلاصة] أن النخبة تريد أن تشعر بأنها مفيدة في البلاد.
هناك طرق لهذا العمل. اليوم، ولحسن الحظ، جرى الحديث عن هذه الشركات القائمة على المعرفة مرتين أو ثلاثاً، ودوّنت ذلك أيضاً. إن من أفضل الطرق التي تجعل النخبة تشعر بأنها مفيدة تأسيس شركات قائمة على المعرفة، فهذه الشركات توفر التقدم الاقتصادي للبلاد وتوجِد الحيوية في البلاد أيضاً، وكذلك تهبُ التقدم العلمي للبلاد، وتحافظ على النخب، ويستفاد من وجود النخب في البلاد. لذلك إنني أؤكد تعزيز الشركات القائمة على المعرفة. من طرق تعزيزها ألّا تُستورد منتجات هذه الشركات من الخارج بعد الآن. وصلتني في المدة الأخيرة عدة تقارير فيها شكوى ومفادها أن الشركة المعرفية تقول: نحن ننتج هذا المنتج والجهة الإدارية الفلانية المستهلكة لهذا المنتج تستورده من الخارج. لماذا؟ ينبغي أن نتعلم ونعتاد استخدام المنتج المحلي، خاصة أن الجهات الحكومية تكون غالباً بين الزبائن المهمين لهذه المنتجات. هذه القضية التي تتكرر بهذا الحجم مخاطبها الأول هو نحن، والمسؤولون أنفسهم، والأجهزة والدوائر الحكومية. على هؤلاء استخدام المنتجات المحلية وفي المقام الأول منتجات الشركات القائمة على المعرفة.
حسناً، انتهى حديثنا. سوف أتحدّث باختصار عن القضايا الجارية في فلسطين وغزة. الماثل أمام أعين العالم أجمع في قضيّة فلسطين هو ارتكاب الكيان الغاصب جرائم إبادة، والعالم كلّه يشاهد ذلك. لقد تحدّث المسؤولون في بعض الدول مع مسؤولي بلادنا، وكان اعتراضهم في معرض الدفاع عن الكيان الصهيوني الغاصب: لماذا قتل الفلسطينيّون المدنيّين الصهاينة؟ أولاً إنّه كلامٌ مغايرٌ للواقع، فمَن يسكنون في المستوطنات ليسوا مدنيين وجميعهم مسلحون أصلاً. لنفترض أنّهم مدنيون! كم عدد المدنيّين الذين قُتلوا؟ يقتل هذا الكيان الغاصب الآن مئات أضعافهم من النساء والأطفال والشيوخ والشباب المدنيّين في أبنية غزّة، فالعسكريّون لا يسكنونها بل يتموضعون في مواقعهم، والصهاينة يعلمون هذا أيضاً، وأن هؤلاء هم الناس أنفسهم. يختارون الأماكن المكتظّة بالسكّان ويقصفونها. لقد قدّم الفلسطينيّون آلاف الضحايا في غزّة حتى الآن، في غضون هذه الأيّام القليلة! هذه الجريمة ماثلة أمام أعين النّاس جميعاً في العالم. تجب محاكمة هؤلاء. يجب أن تُحاكم اليوم حكومة الكيان الصهيوني الغاصب حتماً. أولئك يجب أن يحاكموا، وعلى الحكومة الأمريكية أيضاً أن تدرك مسؤوليتها في هذا الأمر. وفق المعلومات المتعددة التي تصلنا إنّ السياسة الحاليّة القائمة خلال هذه الأيام، أي خلال الأسبوع الأخير داخل الكيان الصهيوني، يرسمها الأميركيون، أي يضعون السياسات بأنفسهم. هذه الممارسات التي تقع هي سياسة الأمريكيّين. فليتنبّه الأمريكيّون إلى مسؤوليّتهم. إنّهم المسؤولون. يجب أن يتوقف القصف فوراً. الشعوب المسلمة غاضبة وغاضبة بحقّ. أنتم تلاحظون علامات ذلك، والتجمّعات الشعبيّة ليست في الدول الإسلاميّة فقط، [بل] في لوس أنجلوس وهولندا وفرنسا أيضاً. يحتشد الناس في الدول الأوروبيّة والغربيّة من المسلمين وغير المسلمين، ومن الواضح حال الدول الإسلامية طبعاً؛ النّاس غاضبون. إذا ما استمرّت هذه الجريمة، فإنّ المسلمين سيضيقون ذرعاً ولن تطيق قوى المقاومة ذلك، ولن يتمكّن أحدٌ أن يوقفهم. فليعلموا هذا الأمر. يجب ألا يتوقّعوا من أحد [ويقولوا] ألا تسمحوا للمجموعة الفلانيّة أن تفعل كذا أو كذا، فلن يتمكّن أحدٌ أن يوقفهم عندما يضيقون ذرعاً. هذه حقيقة قائمة. طبعاً ومهما فعل الكيان الصّهيوني، فلن يستطيع أن يعوّض الهزيمة الفاضحة التي تلقّاها في هذه القضيّة. حسناً[10]، ها أنتم قد تفضّلتم بالجملة الأخيرة. شكراً لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في بداية هذا اللقاء، أبدى سبعة من النخب آراءهم ووجهات نظرهم، وقدم تقريراً السيد روح الله دهقاني فيروز آبادي (معاون رئيس الجمهورية للعلوم والتكنولوجيا والاقتصاد القائم على المعرفة، ورئيس المؤسسة الوطنية للنخب).
[2] معاونية التنمية الريفية والمناطق المحرومة في البلاد.
[3] من جملتها كلمته في لقاء رؤساء الجامعات ومراكز الأبحاث ومراكز الارتقاء وحدائق العلم والتقنية، بتاريخ 11/11/2015م.
[4] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج20، ص319.
[5] صرخ الفريق حاج علي رزم آرا، وهو رئيس الوزراء آنذاك في النظام البهلوي، وكان قد وصل إلى هذا المنصب في شهر تير (ما بين 22 من حزيران/يونيو و21 تموز/يوليو) عام 1950م، في بعض نواب المجلس في سلوكٍ مستبدّ. وفي ردِّه على مطالبتهم بتأميم صناعة النفط، وبهدف إثبات عجز الشعب الإيراني عن إدارة موارده النفطية، قال: «إنَّ الشعب الذي يفتقد جدارة صناعة إبريق الماء الفخاري كيف يستطيع إدارة صناعة النفط؟».
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص50، الخطبة 3.
[7] من جملتها كلمته في لقاء مع النخب العلمية، بتاريخ 18/10/2017م.
[8] من جملتها كلمته في لقاء جمع من أساتذة الجامعات والنخب والمحققين، بتاريخ 10/6/2018م.
[9] في كلمته خلال لقاء مع النّخب وأصحاب المواهب العلميّة المتفوّقة، بتاريخ 19/10/2022م.
[10] هتاف الحضور: «الموت لإسرائيل».