بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ألم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ. ولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ﴾1.
الامتحان سنة إلهية:
من الناس بل أغلب الناس من يقول آمنا، وللإيمان آثار، ثم يحسبون أن الله يتركهم وما
يقولون، ويدعهم وما يتوهمون، ويعاملهم سبحانه وهو الحكم العدل بما يظنون في أنفسهم
قبل أن يبتليهم أيهم أحسن عملا، حتى تظهر أنفسهم لأنفسهم، ويعلموا هل هم حقيقة
مؤمنون أو هذه دعوى سولتها النفس، وغرت بها الأماني، وإنهم تائهون في أوهامهم
يحسبون أنهم على شيء، وهم خلو من كل شيء، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. فيقع
الابتلاء في دعوى الإيمان ليعلم الله الذين جاهدوا ويعلم الصابرين ولئلا تكون للناس
على الله حجة.
مقتضيات الحكمة الإلهية:
حاشا حكيمًا أنزل الكتب وأرسل الرسل ووعد وأوعد، وبشّر وأنذر، وقوله الصدق، ووعده
الحق، أن يجازي من بنى عقيدته على خيال ليس له أثر، وظن ليس له أساس، وبالسعادة
السرمدية، والنعيم الأبدي.
آثار الإيمان والاعتقاد السليم:
إن المغترّ بزعمه، الحائر في ظلمات أوهامه الذي لا يسهل عليه الإيمان احتمال المشاق
وتجشم المصاعب في سبيله، ليس بمعزل عن المنافقين الذين حكم الله عليهم بالشقاء
الأبدي والعذاب المخلد. الإيمان يغلب كل هوى، ويقهر كل أمنية، ويدفع بالنفس إلى طلب
مرضاة الله بلا سائق ولا قائد سواه، يقول الله وهو أصدق القائلين:﴿لا
يَسْتَأْذِنُك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّما
يَسْتَأْذِنُك الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وارْتابَتْ
قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون﴾2.
هذا قضاء الله وهذا حكمه على الذين يستأذنون في بذل أرواحهم وأموالهم في أداء فريضة
الإيمان، حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون. صدق الله وصدقت كتبه ورسله، إن للعقائد
الراسخة آثارًا تظهر في العزائم والأعمال وتأثيراً في الأفكار والإرادات لا يمكن
للمعتقدين أن يزيحوها عن أنفسهم ما داموا معتقدين، هكذا الإيمان في جميع شئونه
وأطواره، له خواص لا تفارقه، ونزعات لا تزايله، وصفات جليلة لا تنفك عنه وخلائق
عالية سامية لا تباينه، بها كان يمتاز المؤمنون في الصدر الأول وكان يعترف بمزيتهم
وعلو منزلتهم من كانوا يجحدون عقيدتهم، نعم هم الذين صبروا في نيران امتحان الله
وابتلائه حتى ظهر إيمانهم ذهبًا إبريزًا صافيًا من كل غش، وأعدّ الله لهم جزاء على
صبرهم نعيمًا مقيمًا.
ما أصعب ابتلاء الله وما أشدّ فتنته وما أدقّ حكمته في ذلك ليميّز الله الخبيث من
الطيب! نعم إن دون ابتلاء الله خلع العادات، وتحمل الصعوبات، وبذل الأموال وبيع
الأرواح، كل خطر فهو تهلكة ينبغي البعد عنها إلا في الإيمان، فكل تهلكة فيه فهي
نجاة، وكل موت في المحاماة عن الإيمان فهو بقاء أبدي، وكل شقاء في أداء حقوق
الإيمان فهو سعادة سرمدية، المؤمن يبذل ما له فيما يقتضيه إيمانه ولا يخشى الفقر،
وإن كان الشيطان يعده الفقر. ليس في النفقة لأداء حق الإيمان تبذير ولو أتت على كل
ما في أيدي المؤمنين. إن للمؤمنين حياة وراء هذه الحياة، وإن له لذة وراء لذاتها،
وإن له سعادة غير ما يزينه الشيطان من سعادتها، هكذا يرى المؤمن إن كان الإيمان مسّ
قلبه ولو لم يبلغ العناية من كماله.
السعادة مقترنة بالدين:
إن الفرار من محنة الله في الإيمان مجلبة للخزي الأبدي. إن الفرار من صدمة جيش
الضلال وإن بلغت أقصى ما يتصور موجب للشقاء السرمدي.
لا سعادة إلا بالدين ودون حفظ الدين تتطاير الأعناق، إن للإيمان تكاليف شاقة وفرائض
صعبة الأداء إلا على الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، إن القيام بفرائض الإيمان
محفوف بالمخاطر، مكتنف بالمكاره، كيف لا وأول ما يوجبه الإيمان خروج الإنسان عن
نفسه وماله وشهواته ووضع جميع ذلك تحت أوامر ربه، لن يكون المؤمن مؤمنًا حتى يكون
الله ورسوله أحبّ إليه من نفسه. أول إحساس يلمّ بنفس المؤمن أنه في هذه الدنيا عابر
سبيل إلى دار أخرى خير من هذه الحياة وأبقى. وأول خطوة يخطوها المؤمن بذل روحه إذا
دعاه داعي الإيمان، ولا داعي أرفع صوتًا وأبين حجة من نداء الحق على لسان أنبيائه.
لا يقبل الله في صيانة الإيمان عذرًا ولا علة ما دامت الرجل تمشي والعين تنظر واليد
تعمل. إن امتحان الله للمؤمنين سُنّة من سُننة.
السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني - بتصرف
1-العنكبوت: 1- 3
2-التوبة: 44، 45