بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾1.
نشر الإشاعات:
تشير هذه الآية إلى حركة منحرفة من حركات المنافقين أو ضعاف الإيمان، تتمثل في سعيهم إلى تلقف أي نبأ عن انتصار المسلمين أو هزيمتهم، وبثه بين الناس في كل مكان، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكد من مصدره، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدى إشاعة عمد أعداء المسلمين إلى بثها لتحقيق أهدافهم الدنيئة وليسيئوا إلى معنويات المسلمين ويضروا بهم، وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به... بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إلى قادتهم كي يستفيدوا من معلومات هؤلاء القادة وفكرهم ولكي يتجنبوا دفع المسلمين إلى حالة من الغرور حيال انتصارات خيالية وهمية، أو إلى إضعاف معنوياتهم بإشاعة أنباء عن هزيمة لا حقيقة لها، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم... "يستنبطونه" من مادة "نبط" التي تعني أول ما يستخرج من ماء البئر أو الينبوع، والاستنباط استخراج الحقيقة من الأدلة والشواهد والوثائق، سواء كانت العملية في الفقه أو الفلسفة أو السياسة أو سائر العلوم.
أولي الأمر في الآية هم المحيطون بالأمور القادرون على أن يوضحوا للناس ما كان حقيقيا منها وما كان إشاعة فارغة. وهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه من أئمة أهل البيت عليهم السلام بالدرجة الأولى. ويأتي من بعدهم العلماء المتخصصون في هذه المسائل.
روي عن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام في تفسير أولي الأمر في هذه الآية قال: "هم الأئمة" كما في تفسير نور الثقلين، وهناك روايات أخرى أيضا في هذا المجال بنفس المضمون.
ولعل هناك من يعترض على هذه الروايات قائلا: إن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام لم يكونوا موجودين في زمن نزول هذه الآية، ولم يتعين أحد منهم في ذلك الوقت بمنصب الإمامة أو الولاية، فكيف يمكن القول بأنهم هم المعنيون بهذه الآية؟ والجواب على هذا الاعتراض: "هو أن هذه الآية مثل سائر الآيات القرآنية الأخرى لا تقتصر على زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقط، بل تحمل حكما عاما يشمل كل الأزمنة والقرون التالية لمواجهة الإشاعات التي يبثها الأعداء أو البسطاء من المسلمين بين الأمة".
أضرار اختلاق الإشاعة ونشرها:
لقد ابتليت المجتمعات البشرية وعانت الكثير من المصائب والنكبات الرهيبة، بسبب بروز ظاهرة اختلاق الإشاعة ونشرها بين الأفراد حيث كانت تؤثر تأثيرا سلبيا كبيرا على معنويات أفراد المجتمع، وتضعف فيهم الروح الاجتماعية وروح التفاهم والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد. وتبدأ الإشاعة بأن يختلق منافق كذبة، ثم ينشرها بين أفراد مغرضين أو بسطاء، ليقوموا بدورهم بالترويج لها بين أبناء المجتمع دون التحقيق فيها، بل يهولونها ويفرعونها مما يؤدي إلى استنزاف مقدار كبير من طاقات الناس وأفكارهم وأوقاتهم، وإلى إثارة القلق والاضطراب بينهم، وكثيرا ما تؤدي الإشاعة إلى زعزعة الثقة بين أفراد المجتمع، وتؤدي إلى خلق حالة من اللامبالاة والتردد في أداء المسؤوليات. ومع أن بعض المجتمعات التي تعاني من الكبت والإرهاب تعمد إلى الإشاعة كأسلوب من الكفاح السلبي، انتقاماً من الحكومات الطاغية الجائرة، فالاشاعة بحد ذاتها تعتبر خطرا كبيرا على المجتمعات السليمة، فإذا اتجهت الإشاعة إلى الأفراد الكفوئين من المفكرين والخبراء والعاملين في المرافق الهامة للمجتمع، فإنها ستؤدي إلى حالة من البرود في نشاطات هؤلاء، وقد تصادر مكانتهم الاجتماعية، وتحرم المجتمع من خدماتهم. من هنا كافح الإسلام بشدة "اختلاق الإشاعات" والافتراء والكذب والتهمة، مثل ما حارب نشر الإشاعات كما في هذه الآية. وتؤكد الآية في ختامها على أن الله قد صان المسلمين بفضله ولطفه وكرمه من آثار إشاعات المنافقين والمغرضين وضعاف الإيمان، وأنقذهم من نتائجها وعواقبها الوخيمة، ولولا الإنقاذ الإلهي ما نجي من الانزلاق في خط الشيطان إلا قليلا: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا أي أن النبي وأصحاب الرأي والعلماء المدققين هم وحدهم القادرون على أن يكونوا مصونين من وساوس الشائعات ومشيعيها، أما أكثرية المجتمع فلابد لها من القيادة السليمة لتسلم من عواقب اختلاق الشائعات ونشرها 2.
آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - بتصرّف
1-النساء: 83.
2-يتبين مما قلناه أن عبارة " إلا قليلا " هي استثناء من ضمير "اتبعتم" ولا يوجد في الآية تقديم أو تأخير (تأمل بدقة).