بسم الله الرحمن الرحيم
لقد جعل القرآن للتقوى الامتياز الأكبر، وعدها معيارا لمعرفة القيم الإنسانية فحسب!
وفي مكان آخر عدها خير الزاد والشراب إذ يقول: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى1.
أما في سورة الأعراف فقد عبر عنها باللباس: ولباس التقوى ذلك خير2. كما
أنه عبر عنها في آيات أخر بأنها واحدة من أول أسس دعوة الأنبياء، ويسمو بها في بعض
الآيات إلى أن يعبر عن الله بأنه أهل التقوى فيقول: هو أهل التقوى وأهل المغفرة3.
والقرآن يعد التقوى نورا من الله، فحيثما رسخت التقوى كان العلم والمعرفة إذ يقول:
واتقوا الله ويعلمكم الله4. ويقرن التقوى بالبر في بعض آياته فيقول:
وتعاونوا على البر والتقوى. أو يقرن العدالة بالتقوى فيقول: اعدلوا هو أقرب للتقوى.
والآن ينبغي أن نرى ما هي "حقيقة التقوى" التي هي أعظم رأس مال معنوي وافتخار
للإنسان. أشار القرآن إشارات تكشف أستارا عن حقيقة التقوى، فيذكر في آيات متعددة "القلب"
مكانا للتقوى، ومن ضمنها قوله تعالى: أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى5.
ويجعل القرآن "التقوى" في مقابل "الفجور" كما نقرأ ذلك في الآية (8) من سورة الشمس:
فألهمها فجورها وتقواها. ويعد القرآن كل عمل ينبع من روح الإيمان والإخلاص والنية
الصادقة أساسه التقوى، كما جاء في وصفه في شأن "مسجد قبا" (في المدينة) حيث بنى
المنافقون في قباله "مسجد ضرار" فيقول: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن
تقوم فيه6. ويستفاد من مجموع هذه الآيات أن التقوى هي الإحساس
بالمسؤولية والتعهد الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجة لرسوخ إيمانه في قلبه حيث
يصده عن الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبر ويغسل أعمال الإنسان من
التلوثات ويجعل فكره ونيته في خلوص من أية شائبة. وحين نعود إلى الجذر اللغوي لهذه
الكلمة نصل إلى هذه النتيجة أيضا لأن "التقوى" مشتقة من "الوقاية" ومعناها المواظبة
والسعي على حفظ الشئ، والمراد في هذه الموارد حفظ النفس من التلوث بشكل عام، وجعل
القوى تتمركز في أمور يكون رضا الله فيها: وقد ذكر بعض الأعاظم للتقوى ثلاث مراحل:
1 - حفظ النفس من (العذاب الخالد) عن طريق تحصيل الاعتقادات الصحيحة.
2 - تجنب كل إثم وهو أعم من أن يكون تركا لواجب أو فعلا لمعصية.
3 - التجلد والاصطبار عن كل ما يشغل القلب ويصرفه عن الحق، وهذه تقوى الخواص بل خاص
الخاص7. وفي نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تعابير
حية وبليغة في شأن التقوى، حيث ذكرت التقوى في كثير من خطب الإمام وكلماته القصار!
ففي بعض كلماته يقارن (عليه السلام) بين التقوى والذنب فيقول: "ألا وإن الخطايا خيل
شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل
عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة"8. وطبقا لهذا التشبيه اللطيف
فإن التقوى هي حالة ضبط النفس والتسلط على الشهوات، في حين أن عدم التقوى هو
الاستسلام للشهوات وعدم التسلط عليها. ويقول الإمام علي في مكان آخر: "اعلموا عباد
الله أن التقوى دار حصن عزيز والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ
إليه ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا"9. ويضيف في مكان آخر أيضا: "فاعتصموا
بتقوى الله فإن لها حبلا وثيقا عروته ومعقلا منيعا ذروته"10. وتتضح
حقيقة التقوى وروحها من خلال مجموع التعبيرات آنفة الذكر. وينبغي الالتفات إلى هذه
"اللطيفة" وهي أن التقوى ثمرة شجرة الإيمان، ومن أجل الحصول على هذه الثمرة النادرة
والغالية ينبغي أن تكون قاعدة الإيمان راسخة ومحكمة! وبالطبع فإن ممارسة الطاعة
وتجنب المعصية والالتفات إلى المناهج الأخلاقية تجعل التقوى راسخة في النفس،
ونتيجتها ظهور نور اليقين والإيمان في نفس الإنسان، وكلما إزداد نور التقوى إزداد
نور اليقين أيضا، ولذلك نجد التقوى في بعض الروايات الإسلامية على أنها درجة أعلى
من الإيمان وأدنى من اليقين! يقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): "الإيمان
فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة وما قسم في
الناس شئ أقل من اليقين". ونختتم بحثنا بأبيات تجسد حقيقة التقوى ضمن مثال جلي:
خل الذنوب صغيرها***كبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض***الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة***إن الجبال من الحصى
* الشيخ ناصر مكارم الشيرازي-بتصرّف
1- البقرة، الآية 197.
2- الأعراف، الآية 26.
3- المدثر، الآية 56.
4- البقرة، الآية 282.
5- الحجرات، الآية 3.
6- سورة التوبة، 108.
7- بحار الأنوار، ج 70، ص 126.
8- نهج البلاغة الخطبة رقم 16.
9- نهج البلاغة الخطبة 157.
10- نهج البلاغة الخطبة 190.