بسم الله الرحمن الرحيم
من الممكن أن يرىٰ البعض عدم صحّة استعمال لفظ واحد في أكثر من معنىٰ واحد، وعليه فإنّ قصد أكثر من معنىٰ من لفظ قرآنيّ واحد ليس صحيحاً بنظرهم، لكن يجب الإلتفات إلىٰ أنّه:
أوّلاً علىٰ
فرض صحّة ذلك المبنىٰ فإنّه يمكن تصوّر معنىٰ لجامع انتزاعيّ له ظهور عرفيّ بحيث
يشمل جميع المراتب.
ثانياً: إنّ المراتب الطوليّة هي مصاديق لمعنىٰ واحد وليست هي معاني
متعدّدة للفظ واحد.
ثالثاً: إنّ الامتناع المتوهّم إمّا أن يعود سببهُ إلىٰ ضيق وعاء اللفظ أو
تقييد وتحديد قدرة المستمِع والمخاطَب أو ضعف وعدم سعة علم وإرادة المتكلّم، والقسم
المهمّ المذكور في ذلك البحث علىٰ فرض تماميّته هو الّذي يعود إلىٰ ضعف العلم
والإرادة عند المتكلّم لا المخاطَب.
فإذا كان المتكلّم والمريد هو الله سبحانه الّذي لا حدود ولا نهاية لعلمه وإرادته،
فلا محذور في إرادة عدّة مواضيع من آية واحدة وعدّة معانيَ من لفظ واحد، كما أنّ
الضعف والضيق المذكور إذا كان بلحاظ المخاطَب، فإنّ المخاطَب الأصيل للقرآن، هو
الإنسان الكامل، أي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي لا محذور في سعته
الوجوديّة من إدراك معانيَ متعدّدة مرّة واحدة، يعني إذا كان المخاطبون الآخرون لا
يتمتّعون بكفاءة تلقّي المعاني المتعدّدة من لفظ واحد فإنّ الرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم يتمتّع بمثل هذه الكفاءة.
ومن هنا نستنتج موضوعاً آخر يتعلّق بلغة القرآن، وهو انّ قانون المحاورة وإن كان
يجب أن يُراعىٰ ويتّبع من ناحية اللفظ وبلحاظ المخاطب بالنسبة إلىٰ الأفراد
العاديّين، لكن لا يمكن تسرية مثل هذا الحكم من ناحية المتكلّم بأن يقال انّ جميع
أحكام المتكلّمين العاديّين حاكمة علىٰ المتكلّم في الوحي وهو الله سبحانه، إضافة
إلىٰ أنّ المخاطَب الأوّلي والأصيل للقرآن الكريم، هو الرسول الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم الّذي منحته الخلافة الإلٰهيّة قدرة تحمّل المعاني المتعدّدة في موضع
واحد. طبعاً لا شيء من الاُمور المذكورة، أي خصوصيّة المتكلّم، وامتياز المخاطَب
الأصيل أي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يكون مانعاً من تطبيق قانون
اللسان العربيّ المبين بالنسبة إلىٰ الآخرين.
ولعلّ أحد معاني الحديث المأثور عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «القرآن
ذلول ذو وجوه فاحملوه علىٰ أحسن الوجوه»1 هو أنّ للقرآن الكريم
معارف طوليّة متنوّعة ومواضيع عرضيّة متعدّدة، فإذ لم يتيسّر الجمع بينها جميعاً
فاحملوها علىٰ أحسن وجه، فإذا كانت تلك المعاني ليست صحيحة ولا تامّة، فإنّ القرآن
الكريم لن يكون أبداً ذلولاً ومتساهلاً وليّناً للمعنىٰ الخاطئ، ولا يعدّ ذلك
المعنىٰ من وجوه القرآن. فالمقصود هو أنّ كون القرآن ذا وجوه يمكن أن يكون ناظراً
إلىٰ معنىٰ ذُكر في هذا القسم وهو الإرتباط بين مراتب الظاهر ومراتب الباطن وكذلك
إرتباط الظواهر بعضها بالبعض الآخر والبواطن كذلك و...؛ كما يمكن أن يكون ناظراً
إلىٰ أمر آخر.
فالقول بأنّ القرآن «ذو وجوه» جاء بمعنىٰ آخر في بعض الأحاديث، كما في الكتاب الّذي
كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلىٰ ابن عبّاس عند الإحتجاج مع الخوارج حيث أمره
بأن يجعل محور الإستدلال هو السنّة لا القرآن: «لاتخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن
حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون ولكن حاججهم (خاصمهم) بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها
محيصاً».2 هذا الكلام يدلّ علىٰ انّ البعض وبواسطة التفسير بالرأي
المذموم كانوا يفرضون علىٰ القرآن وجوهاً وآراءً ويفسِّرون الوحي الإلهيّ طبقاً
لأهوائهم، ولذلك جعل الإمام عليه السلام سنّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله
وسلم وهي المبيّن والشارح الحقيقيّ للقرآن الكريم محوراً للإحتجاج. ولذلك فإنّ «ذو
وجوه» ليس بمعنىٰ القابليّة الحقيقيّة للقرآن للحمل علىٰ وجوه متعدّدة.
* آية الله الشيخ جوادي آملي
1- عوالي اللئالي،
ج4، ص104.
2- نهج البلاغة، الكتاب 77.