بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة تعريفية:
"الجدال "و "المراء "و "الخصام "ثلاث مفردات متقاربة من حيث المعنى، وفي نفس الوقت يوجد ثمة اختلاف بينها:
1- "الجدال" يعني في الأصل اللغوي لف الحبل، ثم أخذ يطلق بعد ذلك على لف الطرف المقابل والنقاش الذي يتضمن الغلبة.
2- "مراء" على وزن "حجاب "وتعني الكلام في شئ ما فيه مرية أو شك.
3- أما "الخصومة"والمخاصمة فتعني في الأصل إمساك شخصين كل منهما للآخر من جانبه، ثم أطلقت بعد ذلك على التشاجر اللفظي والأخذ والرد في الكلام.
وكما يقول العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) فإن الجدال والمراء أكثر ما يستخدمان في القضايا العلمية، في حين تستخدم المخاصمة في الأمور والمعاملات الدنيوية. ويحدد بعضهم الاختلاف بين الجدال والمراء في أن هدف المراء هو إظهار الفضل والكمال، في حين أن الجدال يستهدف تعجيز وتحقير الطرف المقابل. وقالوا أيضا في الفرق بينهما: إن الجدال في القضايا العلمية، والمراء أعم من ذلك. وقالوا أخيراً: إن المراء ذو طابع دفاعي في قبال هجوم الخصم، بينما الجدال أعم من الدفاع والهجوم.
الجدال السلبي والإيجابي:
يظهر من الآيات القرآنية أن للفظ الجدال معاني واسعة، ويشمل كل أنواع الحديث والكلام الحاصل بين الطرفين، سواء كان إيجابيا أم سلبيا، ففي الآية (125) من سورة "النحل "نقرأ أمر الخالق تبارك وتعالى لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن. وفي الآية (74) من سورة "هود "نقرأ عن إبراهيم (عليه السلام): "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط" والآية تشير إلى النوع الإيجابي من المجادلة. ولكن أغلب الإشارات القرآنية حول المجادلة تشير إلى النوع السلبي منها، كما نرى ذلك واضحا في الآية الواردة في سورة "المؤمن"، حيث أشارت إلى "المجادلة "بمعناها السلبي خمس مرات. وفي كل الأحوال يتبين أن البحث والكلام والاستدلال والمناقشة لأقوال الأخرين، إذا كان لإحقاق الحق وإبانة الطريق وإرشاد لجاهل، فهو عمل مطلوب يستحق التقدير، وقد يندرج أحيانا في الواجبات. فالقرآن لم يعارض أبدا البحث والنقاش الإستدلالي والموضوعي الذي يستهدف إظهار الحق، بل حث ذلك في العديد من الآيات القرآنية. وفي مواقف معينة طالب القرآن المعارضين بالإتيان بالدليل والبرهان فقال: هاتوا برهانكم.
وفي المواقف التي كانت تتطلب إظهار البرهان والدليل، ذكر القرآن أدلة مختلفة، كما نقرأ ذلك في آخر سورة "يس" حين جاء ذلك الرجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يمسك بيده عظما فقال له سائلا: من يحيى العظام وهي رميم، فذكر القرآن عددا من الأدلة على لسان الرسول الأكرم في المعاد وقدرة الخالق على إحياء الموتى. وفي القرآن نماذج أخرى واضحة على الجدال الإيجابي، كما في الآية (258) من سورة البقرة، التي تعكس كلام إبراهيم (عليه السلام) وأدلته القاطعة أمام نمرود. والآيات (47- 54) من سورة "طه "تعكس تحاجج موسى وفرعون. وكذلك نجد القرآن ملئ بالأدلة المختلفة التي أقامها رسول ل الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقابل عبدة الأصنام والمشركين وأصحاب الذرائع. ومن جهة أخرى يذكر القرآن الكريم نماذج أخرى من مجادلات أهل الباطل لإثبات دعاواهم الباطلة من خلال استخدام السفسطات الكلامية والحجج الواهية لابطال الحق وغواية عوام الناس. إن السخرية والاستهزاء والتهديد والافتراء والإنكار الذي لا يقوم على دليل، هي مجموعة من الأساليب التي يعتمدها الظالمون الضالون إزاء الأنبياء ودعواتهم الكريمة، أما الاستدلال الممزوج بالعاطفة والحب والرأفة بالناس فهو أسلوب الأنبياء، رسل السماء إلى الأرض.
في الروايات الإسلامية والتأريخ الإسلامي آثار كثيرة وغنية عن مناظرات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) مع المعارضين، وإذا ما توفر جهد معين على جمعها وتصنيفها فإنها ستشكل كتابا كبيرا وضخما للغاية. (وقد قام العلامة الشيخ الطبرسي بجمع بعضها في كتابه "الإحتجاج". وبالطبع لم ينحصر مقام المجادلة بالتي هي أحسن ومناظرة الخصوم على المعصومين، بل إن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحثون من يجدون فيه القدرة الكافية والمنطق القوي المتين للقيام بهذه الوظيفة، والا فقد تضعف جبهة الحق ويقوى عود خصومها، ويجدون في أنفسهم الجرأة في مواجهة الحق والتمادي في عنادهم. وفي هذا الاتجاه نقرأ في حديث، أن أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) يلقب ب "الطيار "ويدعى (حمزة بن محمد) جاء إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال له: "بلغني أنك كرهت مناظرة الناس "فأجابة الإمام (عليه السلام) بقوله: "أما مثلك فلا يكره، من إذا طار يحسن أن يقع، وإن وقع يحسن أن يطير، فمن كان هذا لا نكرهه". كلام جميل يشير بوضوح كاف إلى القوة والمتانة في قدرة الاستدلال والمناظرة وخصم الطرف المقابل لمن يريد خوض المناظرة مع الخصوم، كي يكون بمقدوره استخلاص النتائج وإنهاء البحث، فلابد من حضور اشخاص مستعدين ولهم تسلط كاف على البحوث الاستدلالية، حتى لا يحسب ضعف منطقهم بأنه من ضعف دينهم ومذهبهم.
الآثار السيئة للجدال السلبي:
صحيح أن البحث والنقاش هو مفتاح لحل المشاكل، إلا أن هذا الأمر يصح في حال رغبة الطرفين في نشدان الحق والبحث عن الطريق الصحيح، أو على الأقل يكون أحد الطرفين متمسكا بالحق ومستهدفا السبيل إليه فيما يخوض من نقاش ومناظرة. أما أن يكون النقاش والجدل بين الطرفين بهدف التفاخر واستعراض القوة، وفرض الرأي على الطرف الثاني عن طريق إثارة الضجة، فإن عاقبة هذا الأمر لا تكون سوى الابتعاد عن الحق وعشعشة الظلمة في القلوب وتجذر العداء والحقد لا غير. ولهذا السبب نهت الروايات والأحاديث الإسلامية عن المراء والجدال الباطل، وفي هذه المرويات إشارات كبيرة المعنى إلى الآثار السيئة لهذا النوع من الجدال. ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نقرأ قوله (عليه السلام): "من ضن بعرضه فليدع المراء ". لأن في هذا النوع من النقاش سوف ينحدر بالكلام تدريجيا ليصل إلى مناحي الاستهانة وعدم الاحترام وتبادل الكلام المبتذل القبيح، وترامي الاتهامات الباطلة. وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أيضا نقرأ وصيته (عليه السلام) إذ يقول: "إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان، وينبت عليهما النفاق ". إن مثل هذا النوع من الجدال والذي يكون عادة فاقدا للالتزام بالأصول الصحيحة للبحث والاستدلال، سيقوي روح اللجاجة والتعصب والعناد لدى الأشخاص، بحيث يستخدم كل طرف- بهدف التغلب على خصمه والانتصار لنفسه- كل الأساليب حتى تلك التي تنطوي على الكذب والتهمة، ومثل هذا العمل لا يمكن أن تكون عاقبته إلا السوء والحقد وتنمية جذور النفاق في الصدور. إن واحدة من المفاسد الكبيرة الأخرى للجدال السلبي المنهي عنه، هو تمسك الطرفين بانحرافاتهم وأخطائهم وإصرارهم على اشتباهاتهم، في موقف عنيد بعيد عن الحق والصواب، ذلك لأن كل طرف يحاول ما استطاع التمسك بأي دليل والتشبث بالباطل لفرض رأيه وإثبات كلامه، وهو في ذلك مستعد لأن يتجاهل الكلام الحق الذي يصدر من خصمه، أو أنه ينظر إليه بعدم الرضا والقبول. وهذا بحد ذاته يزيد من الانحراف والاشتباه والخطأ.
أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن:
لا يستهدف "الجدال الإيجابي "تحقير الطرف الآخر أو الانتصار عليه، بل يهدف النفوذ إلى عمق أفكاره وروحه، لهذا فإن أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن يختلف كليا عن الجدال السلبي أو الباطل. ولكي يؤثر الطرف المجادل معنويا على الطرف الآخر، عليه الاستفادة من الأساليب الآتية التي أشار إليها القرآن الكريم بشكل جميل:
1- ينبغي عدم الإصرار على الطرف المقابل بقبول الكلام على أنه هو الحق، بل على المجادل إذا استطاع أن يجعل الطرف المقابل يعتقد بأنه هو الذي توصل إلى هذه النتيجة، وهذا الأسلوب سيكون أكثر تأثيرا. بعبارة أخرى: من المفيد للطرف المقابل أن يعتقد بأن النتيجة أو الفكرة نابعة من أعماقه وهي جزء من روحه، كي يتمسك بها أكثر ويذعن لها بشكل كامل. وقد يكون هذا الأمر هو سر ذكر القرآن للحقائق المهمة كالتوحيد ونفي الشرك وغير ذلك على شكل استفهام، أو أنه بعد أن ينتهي من استعراض وذكر أدلة التوحيد يقول: أإله مع الله.
2- يجب الامتناع عن كل من ما يثير صفة العناد واللجاجة لدى الطرف الآخر، إذ يقول القرآن الكريم: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله. كي لا يصر هؤلاء على عنادهم ويهينوا الخالق جل وعلا بتافه كلامهم.
3- يجب مراعاة منتهى الإيضاح في النقاش مع أي شخص أو أي مجموعة، كي يشعر الطرف المقابل بأن المتحدث إليه يبغي حقا توضيح الحقائق لا غير، فعندما يتحدث القرآن عن مساوئ الخمر والقمار، فهو لا يتجاهل المنافع الثانوية المادية والاقتصادية التي يمكن أن يحصل عليها البعض منهما، فيقول: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. إن هذا الطراز من الحديث يحمل آثارا إيجابية كبيرة على المستمع.
4- يجب عدم الرد بالمثل حيال المساوئ والأحقاد التي قد تطفح من الخصم، بل يجب سلوك طريق الرأفة والحب والعفو ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا، إذ أن الرد بهذا الأسلوب الودود يؤثر كثيرا في تليين قلوب الأعداء المعاندين، كما يقول القرآن الكريم ويحث على ذلك: أدفع بالتي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم.
والخلاصة، إننا عندما ندقق في أسلوب نقاشات الأنبياء علهم السلام مع الأعداء والظالمين والجبارين، كما يعكسها القرآن الكريم، أو كما تعكسها تلك المناظرات العقائدية بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) وبين أعدائهم وخصومهم، ننتهي إلى دروس تربوية في هذا المجال تطوي في تضاعيفها أدق الأساليب والوسائل النفسية التي تسهل لنا النفوذ إلى أعماق الآخرين. وبهذا الخصوص ينقل العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) رواية مفصلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يضمنها مناظرة طويلة بين الرسول الأكرم وبين خمسة مجاميع مخاصمة هي: اليهود والنصارى والدهريين والثنويين (أتباع عقدية التثنية في التأليه) ومشركي العرب، تنتهي بسبب الأسلوب الحكيم الجميل والمؤثر الذي استخدمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قبول هؤلاء بالحق وإذعانهم وتسليمهم له. إن هذه المناظرة المربية بامكانها أن تكون لنا درسا بناء في مناظراتنا وأساليب جدلنا ومناقشاتنا مع الآخرين.
* الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي- بتصرّف