بسم الله الرحمن الرحيم
مـن مـصـاديـق الـحمية الجاهلية ما حاوله البعض ان يحرف في معنى الجاهلية من معنى عدم العلم وفـقـدان الـمـعرفة لديهم الى ا نها من الجهل بمعنى الحمية والغضب, كما قـد يقال: جهل زيد على عمرو بمعنى غضب عليه, وأنها ليست من الجهل بمعنى عدم العلم والمعرفة.
وهـذا الـتـوجيه ليس ـ كما قلنا ـ إلا مصداقا من مصاديق الحمية الجاهلية, فان الظاهر من اطلاق الـجـهـل لـيس الا بمعنى ما يقابل العلم والمعرفة, ولا تحمل على معنى الحمية والغضب الا مجازا بـقـريـنـة مـا, كـمـا فـيـمـا يـستشهدون به من قولهم جهل عليه, فان تعدية الجهل الى المفعول بلفظة "على" اجلى قرينة لفظية لذلك, وإلا فلا تحمل الكلمة إلا على ما يقابل العلم فقط.
ولـيـت شـعري ما يقول اصحاب هذا التوجيه غير الوجيه في معنى ما جاء في الآيات الكريمة الاربع "ظن الجاهلية" و"حكم الجاهلية" و"الحمية الجاهلية" و"تبرج الجاهلية" فهل يصح ان تفسر الجاهلية في هذه الايات بمعنى الغضب؟.
وقد رأينا امير المؤمنين عليه السلام وصف الجاهلية بالجهلاء تاكيدا للمعنى المعروف مـن الجاهلية, ثم قال: "وبلاء من الجهل" و"اطباق جهل" مما يؤكد ذلك ايضا ويدفع أي ترديد فيه.
لـقـد أوضـح لـنـا الإمـام أمير المؤمنين عليه السلام في كلماته المتقدمة حالة العرب ومستواهم العلمي والثقافي, وأنهم كانوا يعيشون في ظلمات الجهل والحيرة والضياع.
وهـذا يـكـذب كـل ما يدعيه الاخرون ـ كالألوسي وغيره ـ من أن العرب كانوا قد تميزوا ببعض العلوم:" كعلم الطب والقيافة والعيافة"1.
ويـقول ابن خلدون بهذا الصدد "ان الملة ـ العربية ـ في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة, وذلك لمقتضى احوال السذاجة والبداوة فالقوم يومئذ عرب لم يعرفوا امر التعليم والتأليف والتدوين, ولا دفعوا اليه, ولا دعتهم اليه حاجة، فالامية يومئذ صفة عامة"2.
ويـقـول عــن عـلم الطب عند العرب: "طب يبنونه ـ في غالب الأمر ـ على تجربة قاصرة على بعض الاشخاص متوارثا عن مشايخ الحي وعجائزه, وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طـبـيعي ولا على موافقة المزاج وكان عند العرب من هذا الطب كثير, وكان فيهم اطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره"3.
ويكفي ان نذكر هنا ما رواه البلاذري في أميتهم: ان الاسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلا, وفي الأوس والخزرج في المدينة اثنا عشر رجلا يعرفون القراءة والكتابة 4.
ويـقول ابن خلدون عن نوعية الخط عندهم "وكانت كتابة العرب بدوية وكان الخط العربي لأول الاسـلام غـير بالغ الى الغاية من الاحكام والاتقان والاجادة ولا الى التوسط, ذلك لمكان العرب من الـبـداوة والـتـوحـش وبـعـدهـم عن الصنائع وانظر ما وقع ـ لاجل ذلك ـ في رسمهم المصحف حـيـث رسـمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الاجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقـتـضته رسوم صناعة الخط عند أهلها, ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه اصحاب الرسول"5.
بل ربما كـانوا يعتبرون القراءة والكتابة عيباً, فقد قال عيسى بن عمر: قال لي ذو الرمة: إرفع هذا الحرف فقلت له: اتكتب؟ فقال بيده على فيه أي اكتم علي, فإنه عندنا عيب 6.
وقـال ابـن خـلـدون بهذا الصدد: "مع ما يلحقهم من الانفة عن انتحال العلم حينئذ, لأنه من جملة الصنائع, والرؤساء ـ أبداً ـ يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها"7.
فـالـذي رواه الرواة والمؤرخون يفيد نفي وجود أي لون من ألوان التعليم, أو وجوده ولكن بنسبة صـغـيـرة جـداً حـيث لا يتجاوز عدد المتعلمين عدد أصابع اليدين والرجلين في كل بلدان الحجاز وحواضره.
ذهـب بعض المتأخرين من المؤرخين العرب ـ منهم محمد عزة دروزة في كتابه: القرآن المجيد ـ إلـى أن هـناك في المدن الحجازية فئة من المتعلمين بنسبة لا يمكن تجاهلها وكل ما سجله هؤلاء في كتبهم لتأييد رأيهم هو: ـ أن البيئة الحجازية ـ ولاسيما مكة والمدينة ـ كانت بيئة تجارية ـ, كما اشـار إلـى ذلك القرآن الكريم في سورة قريش, فكانت ـ بحكم عملها وطبيعتها ـ على اتصال وثيق ومـسـتـمر مع البلاد المجاورة من الشام واليمن والعراق والتي كانت على جانب لا بأس به من العلم والثقافة.
وكـانت البيئة الحجازية تضم فئات كتابية: يهودية ومسيحية اصيلة ونازحة من البلاد المجاورة, والتي كانت تتداول ما بينها الكتب الدينية وغيرها قراءة وكتابة.
هـذا مـن جـهة, ومن جهة اخرى فقد ورد في القرآن العزيز اطول آية في سورة البقرة تطلب من الناس تسجيل كافة المعاملات والتصرفات وكتابتها نقـدا او دينا صغيرة او كبيرة 8 فكيف تـطـلـب هـذه الآيـات مـن الـنـاس تـحـقـيق كل ذلك دون وجود قسم من المتعلمين في صفوفهم يكتبون ويدونون عن انفسهم او الاخرين.
هـذا بـالاضافة الى ان كتبة الوحي بين يدي الرسول عليه السلام بلغ عددهم اكثر مـن اربعين رجلا, وان كـثيرا منهم كانوا مكيين, وهم الذين كتبوا القسم المكي من القرآن قبل هجرته عليه السلام الى المدينة, فـهـذا دليل على وجود المتعلمين في مكة وان كانوا قليلين, سواء ممن كتب الوحي من هؤلاء ومن لم يسلم بعد.
كـما ان الاسرى الفقراء من قريش الذين وقعوا في قبضة المسلمين في معركة بدر الكبرى في العام الثاني للهجرة, والذين لم يستطيعوا ان يقدموا فدية نقدية لاطلاق سراحهم, كلف كل واحد منهم ـ مـمـن يجيد القراءة والكتابة ـ تعليم عشرة من اطفال المسلمين في المدينة القراءة و الكتابة لقاء اطلاق سـراحـهـم, ويـحدثنا البلاذري:" ان كثيرين منهم قاموا بما كلفوا به من تعليم الاطفال في المدينة واصـبـحـوا بعدها احرارا عادوا الى مكة, كما اسلم بعضهم بعدما لمسوا عدالة الاسلام وسماحته فـكـيـف يـعـقـل هنا ان يجيد قسم من الفقراء ومعدمي القرشيين القراءة والكتابة ولا يتقنها اغنياؤهم وتجارهم وارباب السلطان منهم" 9.
وخـلاصـة الـقول في جواب هؤلاء هو ان نقول: ان الجهل كان هوالحاكم المطلق ولا نلاحظ نحن فيهم اي شي من العلوم قبل الاسلام بل لا نرى إلا جهلا وحيرة وضياعا، أما ما اسـتشهد به هؤلاء فلا يعدو ان يكون مما قام به الاسلام لمحو الامية.
أمـا اولوية ان يكون ذوو الغنى والسلطان منهم يقرؤون ويكتبون فقدعرفت فساده مما سبق عن ابن خـلدون واما عدد كتاب الوحي فقد فند اكثر العدد العلامة السيد ابو الفضل مير محمدي في كتابه القيم "بحوث في تاريخ القرآن وعلومه".
ولا يـفـوتـنا هنا ان ننوه إلى: أن اميتهم هذه كانت السبب في قوة حافظتهم التي امتازوا بها, فاصبح الكثير منهم حفظة القرآن الكريم واحاديث الرسول العظيم.
لكن مستواهم الثقافي هذا كان السبب الطبيعي في ان ينظروا الى اهل الكتاب عموما واليهود خصوصا نظرة التلميذ الى معلمه فتكون لهم الهيمنة الفكـرية عليهم, مما بقيت آثاره في أخبار رواتهم فيقول الطبري: "عن بعض اهل العلم من اهل الكتاب".
غيرة وحمية, أم حمية جاهلية:
كـمـا حـاولـوا ان يوجهوا الجاهلية بتفسيرها بمعنى الغضب لا عدم العلم والمعرفة, كذلك حاولوا تحريف الحمية الجاهلية المذكورة في القرآن الكريم من كونها صفة ذميمة إلى جعلها خصيصة ذات ميزة للعرب قبل الاسلام, وذلك بحذف صفة الجاهلية واضافة لفظة "الغيرة" الى "الحمية".
والـحقيقة هي ان الحمية صفة ذميمة, اذ هي تعني ان يكون النصرللقبيلة وذوي القرابة فقط, وان الـعون لا بد وان يمحض لهم ظالمين كانوا أو مظلومين فلا بد من الوقوف إلى جانب ابن القبيلة سواء كان الحق له أوعليه, حتى قال شاعرهم يمتدحهم بذلك:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وفي المقابل تتحمل القبيلة عنه كل جناية وجريمة يرتكبها, وتحميه من كل من أراده بسوء وهذا هو التعصب القبلي الذي لا يرحم ولا يلين، فالتعصب القبلي كان من مميزات الإنسان العربي وخصائصه.
ومـن الـطـبـيـعـي ان يكون شعور افراد كل قبيلة بالنسبة لابناء قبيلتهم قويا جدا, وذلك بدافع من شعورهم بالحاجة الى قبائلهم للدفاع عن انفسهم.
وهـذا هـو الـسـر في شجاعتهم ايضا, وذلك أنهم بحكم بيئتهم وحياتهم في الصحراء بلا حواجز وموانع طبيعية أو غيرها, كانوا يشعرون بحاجتهم إلى حماية أنفسهم والدفاع عنها, ولا يرد عنه إلا يـده وسـيـفـه ثـم أهـلـه وعـشـيـرتـه, وهو يرى نفسه في كل حين عرضة للغزو والنهب والسلب والغارات والثارات.
إن حـيـاة الـبـاديـة والغزو المفاجيء وعمليات الاغتيال ثارا التي كانت تهددهم دائما, كل ذلك كان يـسـتدعي سرعة الاقدام ومباشرة العمل فورا, فاذا اضيف الى ذلك عدم شعورهم بالمسؤولية عما يـفـعـلـون, فـان الاقـدام بـلا تـروٍّ ولا تريث لا بد وان يصبح هو الصفة المميزة لهم والطاغية على تصرفاتهم ولذا فقد قل ان تجد فيهم حليماً.
واخيرا فقد نعى القرآن الكريم على الجاهلية هذه الحمية فعبر عنها بالحمية الجاهلية, وهذا يعني أنها كانت من دون تثبت في الفكر والرأي بل للجهل, فكيف تكون ميزة؟ أجـل ان الاسـلام حاول ان يضع هذه الحمية في خطها الصحيح وان يجعلها تنطلق من قواعد انسانية وعـواطـف حقيقية وفضائل اخلاقية, وبالاخص من إحساس دينى صحيح, وان يستفيد منها في بناء الامـة عـلـى أسس صحيحة وسليمة، فقد حاول ان يوجه العصبية القبلية وجهة بناة ويقضي على كل عـناصر الشر والانحراف فيها, فدعى إلى بر الوالدين وإلى صلة الرحم, وجعل ذلك من الواجبات وذلك لربط الأمة المسلمة بعضها ببعض وفي الوقت نفسه أدان كل تعصب لغير الحق وندد به وعاقب عليه, واعتبر ذلك من دعوات الجاهلية المنتنة كما جاء في بعض نصوص الاحـاديث، وكذلك حاول ان يوجه غيرتهم وحميتهم وشدتهم الى حيث قال تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّار﴾ 10.
الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي
1- الصحيح من سيرة النبي الاعظم (ص) 1: 48.
2 - مقدمة ابن خلدون: 543.
3 - مقدمة ابن خلدون: 493.
4- فتوح البلدان ق 3: 580.
5- مقدمة ابن خلدون: 419.
6- الشعر والشعرا لابن قتيبة: 334.
7- مقدمة ابن خلدون: 544, فصل "ان حملة العلم في الاسلام اكثرهم العجم"
8 - البقرة: 282.
9- لمحات من تاريخ القرآن للسيد محمد علي الاشيقر, ط النجف: 36 و 37.
10- الفتح: 29.