للفقيه الشيخ محمد مهدي النراقي: إعلم أنّ الموت داهية من الدواهي العظمى, ومن كلّ داهية أشدّ وأدهى, وهو من الأخطار العظيمة والأهوال الجسيمة, فمن علم أنّ الموت مصرعُه, والتراب مضجعُه, والقبر مقرّه, وبطن الأرض مُستقرّه, والدود أنيسه,والعقارب والحيّات جليسه,فجدير أن تطول حَسرته, وتدوم عبرته, وتنحصر فيه فكرته, وتَعظُم بليّته, وتشتدّ لأجله رزيته, ويرى نفسَه من أصحاب القبور, ويَعدُها من الموت, إذ كل ما هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت, وحقيق ألا يكون ذكره وفكره وغمّه وهمّه وقوله وفعله وسعْيه وجدّه إلا فيه وله, قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "لو أن البهائم يعلمون ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا. وقال صلى الله عليه واله وسلم لقوم يتحدثون ويضحكون: "اذكروا الموت أمَا والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً, ولبكيتم كثيراً" ومرَّ صلى الله عليه واله وسلم بمجلس قد استعلاه الضحك فقال: "شوبوا مجلسكم بذكر مكدِّر اللذَّات". قالوا وما مكدّر اللذَّات؟ قال: "الموت".
ثم غفلة الناس عن الموت لقلّة فكرهم فيه وذكرهم له, ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل بقلب مشغول بشهوات الدنيا وعلائقها فلا ينفع ذكره في قلبه, فالطريق فيه: أن يفرغَ القلب من كل شيء إلا من ذكر الموت الذي بين يديه, كالذي يريد أن يسافر إلى بلد بعيد وما بينهما مفازة خطرة أو بحر عظيم لا بدّ أن يركبه فانه لا يتفكر إلا فيه ومن تفكر في الموت بهذا الطريق وتكرر منه ذلك لآثرَ ذكره في قلبه, وعند ذلك يقلّ فرحه وسروره بالدنيا, وتزجر نفسه عنها, وينكسر قلبه, ويستعد لأَجَلِه. وأوقع طريق فيه: أن يكثر ذكر أقرانه الذين مضوْا قبله ونُقلوا من أُنس العشرة إلى وحشة الوحدة, ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود, ومن ملاعبة أولادهم إلى مصاحبة الهوام والديدان, ويتذكر مصرعهم تحت التراب, ويتذكر صُوَرَهم في مناصبهم وأحوالهم, ثم يتفكر كيف محا التراب الآن حُسنَ صورتهم وكيف تبددّت أجزاءهم في قبورهم, وكيف أرملوا نساءَهم, وأيتموا أولادَهم, وضيّعوا أموالهم, وخلت منهم مساكنهم ومجالسهم, وانقطعت آثارهم, وأقفرت ديارهم, فمهما تذكّر رجلاً رجلاً, وفصَّل في قلبه حاله, وكيفية حياته, وتوهَّم صورته, وتذكَّر نشاطه, وأمّله في العيش والبقاء ونسيانه الموت وانخداعه بمؤثثات الأسباب (المؤثر), وركونه إلى القوة والشباب, ومَيْله إلى الضحك واللهو, وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع, والهلاك السريع, وانه كيف كان يتردد, والآن وقد تهدمت رجلاه ومفاصله, وكيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه, وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه, وكيف دبَّر لنفسه الأمور وجمع من حطام الدنيا ما لا يتفق احتياجه إليه على مرّ الأعوام والشهور, ثم يتأمل انه مثلهم,وغفلته كغفلتهم, وسيصير حاله في القبر كحالهم.فملازمة هذه الأفكار مع دخول المقابر وتشييع الجنائز تجدد ذكر الموت في قلبه حتى يغلب عليه بحيث يصير الموت نصب عينيه, وعندها يستعدّ له ويتجافى عن دار الغرور, وأما الذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان فقليل الجدوى في التنبيه والإيقاظ, ومهما طاب قلبه بشيء من أسباب الدنيا, فينبغي أن يتذكر في الحال انه لا بدّ من مفارقته كما نقل أن بعض الأكابر نظر إلى داره فأعجبه حسنها فبكى وقال: "والله لولا الموت لكنت بها مسروراً".