بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ صدق الله العليّ العظيم
تتحدَّثُ الآيةُ الكريمةُ عن المقامِ الذي يُعطيه اللهُ عزَّ وجلَّ لمَنْ يُقتلُ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ مُبيِّنَةً أنَّه المكانُ الذي يتحقَّقُ فيه الرضى له، والرضى حالةٌ تستقرُّ لها النفسُ وتطمئنُّ، وهكذا حالُ الشهداءِ في سبيلِ اللهِ، فإنَّ المقامَ الذي يصلونَ إليه يَجعلُهم يعيشونَ حالةَ الاستقرارِ النفسيِّ والمعنويِّ، وهذا جزءٌ مِنَ الرزقِ الحَسَنِ الإلهيِّ لهم.
ومن يصلُ إلى مقامِ الشهادةِ في سبيلِ اللهِ يُحقِّقْ نصراً خاصّاً نابعاً من العزمِ والإرادةِ الموصِلَين له إلى تسجيلِ الانتصارِ على النفسِ الأمَّارةِ أولاً، ويتحدَّثُ الإمامُ الخمينيُّ (قدّس سره) عن ذلك، فيقولُ (قدّس سره): «أيُّها الشهداءُ، إنّكم شهودُ صدقٍ والمذكورونَ بالعزمِ والإرادةِ الثابتةِ الفولاذيةِ لخيرِ عبادِ اللهِ المخلصين، الذين سجّلوا بدمائِهم وأرواحِهم أصدقَ وأسمى مراتبِ العبوديةِ والانقيادِ إلى المقامِ الأقدسِ للحقِّ جلَّ وعلا، وجسَّدوا في ميدانِ الجهادِ الأكبرِ مع النفسِ والجهادِ الأصغرِ مع العدوِّ، حقيقةَ انتصارِ الدمِ على السيفِ وغلبةِ إرادةِ الإنسانِ على وساوسِ الشيطانِ».
والإنسانُ يعجزُ عن وصفِ هذا المقامِ، ولذا يقولُ الإمامُ الخمينيُّ (قدّس سره) مبيِّناً ذلك: «نحن والكتّاب والخطباء والبلغاء؛ إذا أرَدْنا إحصاءَ قيمةِ وأجرِ عملِ الشهداءِ والمجاهدينَ في سبيلِ اللهِ وتضحياتِهم وسعةِ نتائجِ شهادتِهم، لا بدَّ من أنْ نعترفَ بالعجزِ، فما بالُنا إذا أرَدْنا إحصاءَ المراتبِ المعنويةِ والمسائلِ الإنسانيةِ والإلهيةِ المرتبطةِ بالشهادةِ، هنالك العجزُ والتواني بلا ريب».
وهذه البشارةُ بمقامِ الرضى هذا، يصلُ للشهيدِ وهو في هذه الدنيا، ولذا تكونُ خاتمةُ الشهادةِ بابتسامةٍ منه، يقولُ الإمامُ الخامنئيُّ (دام ظلّه) مُبيِّناً تلك الحالةَ التي يصلُ إليها الشهيدُ «عندما يهوي الشهيدُ من مركبِه في ميدانِ القتالِ، قبل أنْ يصلَ بدنُه إلى الأرضِ، تحتضنُه الملائكةُ. وأيُّ نعمةٍ أكبرُ من هذه؟ عندما لاحظتُ هذه الروايةَ، تصوّرتُ أنَّها تشمَلُ حتى لحظاتِ قبلَ الموتِ للشهيدِ؛ الشهيدُ الذي أُطلِقَ عليه الرّصاصُ أو أُصيبَ بالشظايا وقبل أنْ يصلَ بدنُه إلى الأرضِ، إنَّه لا يزالُ في هذه الدنيا ويرى تلك النعمةَ. نعم، في هذه اللحظاتِ التي يذرفُ الإنسانُ دموعَ الحسرةِ وينظرُ خلفَه بالحسراتِ، ينظرُ الشهيدُ أمامَه بنظراتٍ ملؤها الابتسامة».
ولذا، كانَ طلبُ الشهادةِ أمراً ممدوحاً، وهذا ما كانت عليه سيرةُ الأئمةِ (عليهم السلام) ولا سيّما أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام)، ففي ختامِ كتابِه لمالكِ الأشترِ لمّا ولاّه على مصرَ: «... وأنا أسألُ اللهَ بسعةِ رحمتِه وعظيمِ مواهبِه وقدرتِه على إعطاءِ كلِّ رغبة... أن يختمَ لي ولكَ بالسعادةِ والشهادةِ».
ويتحدَّثُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) أيضاً عن حالةِ توطينِ النفسِ على الشهادةِ، فيقولُ: «فواللهِ، لولا طمعي عندَ لقاءِ عدوّي في الشهادةِ، وتوطيني نفسي عند ذلك، لأحببتُ ألّا أبقى مع هؤلاءِ يوماً واحداً».
وهكذا كان الشهداءُ القادةُ من عشّاقِ الشهادةِ في سبيلِ اللهِ، وكانوا يطلبونَها دائماً إلى أن أكرمَهم اللهُ عزَّ وجلَّ بها.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين