شكّلتْ مدرسةُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) منبعاً صافياً لأتباعهم، ولا سيّما في عصر الغيبة؛ فمن مواقفِهم التي نقلَها لنا الرواةُ من أصحابهم تُستَخرجُ الخطوطُ العامة التي ترسمُ ملامحَ المجتمع، ولا سيّما عندما يكونُ للشيعة كيانُهم المستقلُّ، وعندما يتصدَّون بالفعل للمهامِّ والوظائفِ الواجبةِ واللازمةِ في ظلِّ قيادةِ العلماءِ؛ كالإمامِ الخمينيّ (قدّس سرّه).
ومن مفاصلِ السيرةِ التربويةِ للأئمّةِ (عليهم السلام) ما جرى معَ الإمامِ الحسنِ بنِ عليٍّ (عليهما السلام)، حيثُ آلتِ الأمورُ إلى إيقاعِ الصُلحِ المعروف، وفي هذا الصلحِ لا بدَّ من أنْ نلحظَ الآتي:
1- إنَّ هذا الصلحَ شكَّلَ مرحلةً جديدةً من مسيرةَ أهلِ البيت (عليهم السلام)، وهي في غايةِ الأهميّة مِن حيثُ النتائج. يتحدَّثُ الإمامُ الخامنئيُّ (حفظهُ الله) عمّا قامَ به الإمامُ الحسنُ بعد الصلح، قائلاً: «إنَّ الأمرَ جرى تنظيمُه بعد صلحِ الإمامِ الحسنِ المجتبى (عليه السلام) بذكاءٍ وحنكةٍ بنحوٍ لا يدخل فيه (عليه السلام) الإسلامُ والنّهضةُ الإسلاميّةُ في نفقِ الخلافةِ بما تحملُه من مواصفاتِ الملكيّة، وهذا كان فنَّ الإمامِ الحسنِ المجتبى (عليه السلام). فقد قام هذا الإمامُ بعملٍ جعلَ تيّارَ الإسلامِ الأصيلِ -الذي كانَ قدِ انطلقَ من مكّةَ ووصلَ إلى الحكومةِ الإسلاميّةِ وإلى زمنِ أميرِ المؤمنينَ، وإلى زمنِه هو- يسيرُ في مجرًى آخرَ، غايةَ الأمرِ أنّه، وإنْ لمْ يكنْ على شكلِ حكومةٍ؛ لأنّ ذلكَ لم يكنْ ممكناً، فعلى الأقلِّ جرى مرّةً أخرى على شكلِ نهضةٍ. كانت هذه المرحلةُ الثالثةُ للإسلام. مرّةٌ أخرى، نهض الإسلامُ، الإسلامُ الأصيلُ، الإسلامُ المقارعُ للظلمِ، الإسلامُ الّذي لا يُداهِنُ، الإسلامُ البعيدُ عن التحريفِ، والمنزّهُ من التحوّلِ إلى ألعوبةٍ تتقاذفُها الأهواءُ والنزوات. لقد بقيَ، ولكن بقيَ على شكلِ نهضةٍ».
2- إنّ هذا الصلحَ شكَّلَ درساً لضرورةِ أن يمتلكَ الناسُ الوعيَ السياسيَّ والبصيرةَ؛ لأنَّ من أهمِّ الأسبابِ التي جعلتِ الإمامَ (عليه السلام) يذهبُ باتجاهِ الصلحِ هو ضعفَ تحليلِ الوقائعِ السياسيّةِ لدى عامَّةِ الناس، يقولُ الإمامُ الخامنئيُّ: «لقد ذكرتُ كثيراً أنّه عندما تفتقدُ الأمّةُ القدرةُ على التحليل، فستُخدَعُ ويكونُ مصيرُها السقوط. إنّهم .. لم يكنْ لهم قدرةٌ على التحليل، ولم يتمكّنوا من فَهمِ تداعياتِ الأمورِ وما الذي يدورُ حولَهم».
3- إنَّ الزمنَ عندما يكونُ زمنَ فتنةٍ تختلطُ الأمورُ على الناس، فينجرفُ بعضُهم إلى المكانِ الخطأ، وهذا هو ما جرى في زمنِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام)، يقول الإمامُ الخامنئيُّ (دام ظله): «عندما تعلو غبرةُ الفتنِ الغليظة، نتذكّرُ عهدَ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام)، وأنتم تعلمونَ ما الذي حدثَ آنذاك... فقد كان زمانُه زمانَ شبهةٍ وحربٍ مع الكفّارِ المقنّعين، مِن الذين يتمكّنونَ من تسخيرِ شعاراتِهم لأهدافِهم، لقدْ كانَ زماناً صعباً للغاية، ولم يكن هناك بدٌّ من الحذرِ فيه».
ففي أيّ زمانٍ مشابهٍ، حيث تعلو أصواتُ الفتنة التي تريدُ تقسيمَ المجتمع، وهي تحملُ شعاراتٍ جوفاءَ أو تستغِلُّ بعضَ المعاناةِ التي يعيشها الناسُ لتواجِهَ الحقّ، تظهرُ ضرورةُ أنْ يضعَ الإنسانَ الأهدافَ العليا أمامَه، وأنْ يتّسمَ بالبصيرةِ السياسيّةِ، وأنْ لا ينجرفُ إلى المكانِ الخطأ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين