مِن كلامٍ لأميرِ المؤمنينَ (عليه السلام)، وهي كلمةٌ جامعةٌ لِلْعِظَةِ والحكمة، قال: «فَإِنَّ الْغَايَةَ أَمَامَكُمْ، وإِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ، تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ».
قالَ الشريفُ الرضيّ، جامعُ نهجِ البلاغة: «إنَّ هذا الكلامَ لو وُزِنَ بَعْدَ كلامِ اللهِ سبحانه، وبعدَ كلامِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بكلِّ كلام، لمالَ به راجحاً، وبرز عليه سابقاً».
لقد حدّدتِ الآيةُ المبارَكة: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الغايةَ مِن خَلْقِ هذا الإنسان، وهي العبوديّةُ التامّةُ للهِ -عزَّ وجلَّ-، المتمثّلةُ بالطاعةِ التامّة، وهذه الغايةُ هي التي يجبُ السعيُ للوصولِ إليها في هذهِ الدنيا.
وأمّا ما وراءَ هذا الإنسانِ الذي يَلحَقُ به، وسوف يدركُهُ في النهاية، فهو لحظةُ الموتِ التي يَفِرُّ منها دائماً، وهي حتماً ستلاقيه، وهذه الدنيا تحمِلُ رُسُلاً ينادُون الإنسانَ كُلَّ يومٍ "إلى أين المفَرُّ؟"
وأمّا الطريقُ الموصِل، فاختصَرَهُ الإمامُ بكلمةٍ واحدةٍ هي (تَخَفَّفُوا)، فكُلَّما كان ما يأخُذُهُ الإنسانُ مِن هذه الدنيا أقلَّ، كانت سرعةُ وصولِهِ إلى الغايةِ أسرع؛ لأنّه سوفَ يحمِلُهُ على ظهرِهِ يومَ القيامة، فكلّما كان أثقلَ، كانت حركتُهُ أبطأ، فعنهُ (عليه السلام) «واعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، ومَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وأَنَّه لَا غِنَى بِكَ فِيه عَنْ حُسْنِ الِارْتِيَادِ، وقَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ، فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْكَ».
ويتجلّى ذلك يومَ القيامةِ في طُولِ الحسابِ لِمَن نالَ مِنَ الدنيا أكثرَ، ولو كان حلالاً، فعن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ والْكَبِيرَةِ، والظَّاهِرَةِ والْمَسْتُورَةِ، فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ، وإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ». وعن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «شَيْئَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ».
ومِنَ الطرقِ الموجِبةِ للتخفُّفِ في يومِ القيامةِ محاسَبَةُ النفْسِ في هذه الدنيا، فعنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام) -وقد سُئل عن كيفية محاسَبةِ النفس-: «إِذَا أَصْبَحَ ثُمَّ أَمْسَى، رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: يَا نَفْسُ، هَذَا يَوْمٌ مَضَى عَلَيْكِ، وَلَا يَعُودُ عَلَيْكِ أَبَداً، وَاللَّهُ يُسَائِلُكِ عَنْهُ بِمَا أَفْنَيْتِهِ، فَمَا الَّذِي عَمِلْتِ؟ أَذَكَرْتِ اللَّهَ أَمْ حَمِدْتِهِ؟ أَقَضَيْتِ حَوَائِجَ مُؤْمِنٍ؟ أَنَفَّسْتِ عَنْهُ كُرْبَةً؟ أَحَفِظْتِهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فِي أَهْلِهِ وَوُلْدِهِ؟ أَحَفِظْتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي مُخَلَّفِيهِ؟ أَكَفَفْتِ عَنْهُ عَنْ غِيبَةِ أَخٍ مُؤْمِنٍ بِفَضْلِ جَاهِكِ؟ أَأَعَنْتِ مُسْلِماً؟ مَا الَّذِي صَنَعْتِ فِيهِ؟ فَتَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ جَرَى مِنْهُ خَيْرٌ، حَمِدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ مَعْصِيَةً أَوْ تَقْصِيراً، اسْتَغْفَرَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَزَمَ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِه».
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين