عنِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام): «رَحِمَ اَللَّهُ أَقْوَاماً، كَانَتِ اَلدُّنْيَا عِنْدَهُمْ وَدِيعَةً، فَأَدَّوْهَا إِلَى مَنِ اِئْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَاحُوا خِفَافاً»[1].
لقدْ وَعَظَ أهلُ البيتِ (عليهم السلام) الناسَ بالكثيرِ ممّا فيهِ خيرُهُم، ومنْ أساليبِ موعظتِهِم بيانُ حقيقةِ هذهِ الدنيا، وحقيقةِ علاقةِ الإنسانِ بها، وذلكَ عبرَ تصحيحِ نظرِ الناسِ إليها؛ فهذهِ الدنيا وديعةٌ وأمانةٌ جعلَها اللهُ في تصرّفِ خلقِه، وأباحَ لهمُ التصرفَ فيها في ما أَحَلَّ، ومنعَهُم منَ التصرّفِ فيها في ما حَرَّمَ. والفوزُ الإلهيُّ الموعودُ في الآخرةِ، هوَ للذينَ أدَّوا تلكَ الأمانةَ، وكانوا منْ أصحابِ الوفاءِ، فذهبوا منْ هذهِ الدنيا، ولمْ يُثقِلوا ظهورَهُم بتبعاتِها، فكانَ حملُهُم في الآخرةِ خفيفاً. وهمُ الذينَ سعَوا في هذهِ الدنيا لطلبِ الآخرةِ، فعنِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام): «يَا مَعَاشِرَ اَلشَّبَابِ، عَلَيْكُمْ بِطَلَبِ اَلْآخِرَةِ، فَقَدْ وَاَللَّهِ رَأَيْنَا أَقْوَاماً طَلَبُوا اَلْآخِرَةَ فَأَصَابُوا اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةَ، وَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا مَنْ طَلَبَ اَلدُّنْيَا فَأَصَابَ اَلْآخِرَةَ»[2].
والوسيلةُ لطلبِ الآخرةِ هيَ في التخلّي عنْ حبِّ هذهِ الدنيا، المؤدّي إلى الحرصِ عليها، فعنِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام): «مَنْ أَحَبَّ اَلدُّنْيَا ذَهَبَ خَوْفُ اَلْآخِرَةِ مِنْ قَلْبِهِ، وَمَنِ اِزْدَادَ حِرْصاً عَلَى اَلدُّنْيَا لَمْ يَزْدَدْ مِنْهَا إِلاَّ بُعْداً، وَازْدَادَ هُوَ مِنَ اَللَّهِ بُغْضاً»[3].
ولكي يُخلِّصَ الإنسانُ نفسَهُ منَ الحرصِ عليها، لا بدَّ منْ أنْ يحملَ الطمأنينةَ في نفسِهِ، بأنَّ ما جعلَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ منْ نصيبٍ لهُ في هذهِ الدنيا، فسوفَ يصلُ إليهِ منْ دونِ نقصٍ، ففي المرويِّ عنِ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام): «وَاَلْحَرِيصُ اَلْجَاهِدُ، وَاَلزَّاهِدُ اَلْقَانِعُ، كِلاَهُمَا مُسْتَوْفٍ أُكُلَهُ، غَيْرُ مَنْقُوصٍ مِنْ رِزْقِهِ شَيْئاً، فَعَلاَمَ اَلتَّهَافُتُ فِي اَلنَّارِ، وَاَلْخَيْرُ كُلُّهُ فِي صَبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، تُورِثُ رَاحَةً طَوِيلَةً وَسَعَادَةً كَثِيرَةً»[4].
ومنَ التفكيرِ السليمِ المُوجبِ للحذرِ، هوَ النظرُ إلى أنَّ لهذهِ الدنيا نهايةً، فمهما نالَ منها، فالنتيجةُ أنَّهُ منقطعٌ عنها؛ لذا يُصنَّفُ الإمامُ الحسنُ (عليه السلام) الناسَ إلى صنفَينِ، إذْ يقولُ (عليه السلام): «وَاَلنَّاسُ طَالِبَانِ؛ طَالِبٌ يَطْلُبُ اَلدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهَا هَلَكَ، وَطَالِبٌ يَطْلُبُ اَلْآخِرَةَ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهَا فَهُوَ نَاجٍ فَائِزٌ»[5].
وجعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ في هذهِ الدنيا فرصاً ينتفعُ منها المؤمنُ، ليكونَ لهُ الفوزُ في الآخرةِ، ومنها شهرُ رمضانَ، فهوَ ساحةُ سبقٍ بينَ الناسِ، ففي الروايةِ: «خَرَجَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فِي يَوْمِ اَلْفِطْرِ، وَاَلنَّاسُ يَضْحَكُونَ، فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ شَهْرَ رَمَضَانَ مِضْمَاراً لِخَلْقِهِ، يَسْتَبِقُونَ فِيهِ إِلَى طَاعَتِهِ، فَسَبَقَ قَوْمٌ فَفَازُوا، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ فَخَابُوا، وَاَلْعَجَبُ مِنَ اَلضَّاحِكِ فِي هَذَا اَلْيَوْمِ اَلَّذِي يَفُوزُ فِيهِ اَلْمُحْسِنُونَ، وَيَخْسَرُ فِيهِ اَلْمُبْطِلُونَ. وَاَللَّهِ، لَوْ كُشِفَ اَلْغِطَاءُ، لَشُغِلَ مُحْسِنٌ بِإِحْسَانِهِ وَمُسِيءٌ بِإِسَاءَتِه»[6].
ختاماً، نباركُ لصاحبِ العصرِ والزمانِ (عجّلَ اللهُ تعالى فرجَهُ) ولوليِّ أمرِ المسلمينَ وللمجاهدينَ جميعاً، ذكرى الولادةِ العطرةِ لسبطِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) الإمامِ الحسنِ بنِ عليٍّ (عليهما السلام) في النصفِ منْ شهرِ رمضانَ المبارك.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] الأمير ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ج1، ص135.
[2] المصدر نفسه، ج1، ص78.
[3] الشيخ الديلميّ، إرشاد القلوب، ج1، ص24.
[4] المصدر نفسه.
[5] المصدر نفسه.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج88، ص119.