بسم الله الرحمن الرحيم
وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - (28/ صفر / السنة 11 هـ)
المشهور بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم ابن ثلاث وستين سنة.
مواقف مهمة قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم:
لما أحسّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدنوّ أجله، اتخذ صلى الله عليه وآله وسلم مواقف وخطوات مهمة تجاه الأمة ومستقبلها فجعل يقوم في مقام بعد مقام في المسلمين يحذّرهم من الفتنة بعده والخلاف عليه. ويؤكد عليهم بالتمسك بسنّته والاجتماع عليها والوفاق، ويحثّهم على الاقتداء بعترته والطاعة لهم والنصرة والحراسة والاعتصام بهم في الدين، ويزجرهم عن الخلاف والارتداد.. وكان أوصى صلى الله عليه وآله وسلم: "أيها الناس، إني فرطكم، وأنتم واردون عليّ الحوض، ألا وإني سائلكم عن الثقلين، فانظروني كيف تخلفوني فيهما، فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني، سألت ربي ذلك فأعطانيه، ألا وإني قد تركتهما فيكم، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهما فتفرقوا ولا تقصِّروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم.. أيها الناس، لا ألفيكم بعدي ترجعون كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.. ألا وإن علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله"1.
جيش أسامة:
ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة، وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأيه عليه السلام على إخراج جماعة من متقدّمي المهاجرين والأنصار في معسكره، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته صلى الله عليه وآله وسلم من يختلف في الرئاسة ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده، ولا ينازعه في حقه منازع، تعقد له الإمرة على من ذكرناه.
فأمر أسامة بالخروج عن المدينة ليعسكر بالجرف، وحثّ الناس على الخروج إليه والمسير معه، وحذَّرهم من الإبطاء عنه2.
وحين بدأ به صلى الله عليه وآله وسلم المرض خرج للبقيع واستغفر لمن دفن فيها طويلاً.. ثم قال للإمام علي عليه السلام: "... فإذا أنا مت فاغسلني واستر عورتي، فإنه لا يراها أحد إلا كمه"3.
ثم عاد إلى منزله عليه وآله السلام فمكث ثلاثة أيام موعوكاً، ثم خرج إلى المسجد معصوب الرأس معتمداً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بيده اليمنى وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى، حتى صعد المنبر فجلس عليه، ثم قال: "معاشر الناس قد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها، ومن كان له عليّ دين فليخبـرني به. معاشر الناس، ليس بين الله وبين أحد شيء نعطيه به خيراً أو يصرف به شراً إلا العمل. أيها الناس، لا يدّع مدّع، ولا يتمنّ متمنٍّ، والذي بعثني بالحق، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت، اللهم هل بلّغت؟".
ومكث في بيت أم سلمة يوماً أو يومين، ثم انتقل إلى بيت عائشة، واستمرّ به المرض أياماً وثقل عليه صلى الله عليه وآله وسلم. وعلم أن بعضاً من أكابر الصحابة قد تأخر عن جيش أسامة، فاستدعاهم وجمعهم في المسجد، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألم آمركم أن تنفذوا جيش أسامة؟!" قالوا: بلى يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فلمَ تأخرتم عن أمري؟".
فقال أحدهم: إنني كنت خرجت ثم عدت لأُجدّد4 بك عهداً، وقال الآخر: يا رسول الله، لم أخرج لأنني لم أحب أن أسأل عنك الركب.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "فأنفذوا جيش أسامة فأنفذوا جيش أسامة" يكررها ثلاثاً، ثم أغمي عليه صلى الله عليه وآله وسلم. ولما أفاق صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إيتوني بدواة وكتف، أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً"، فقام بعض من حضر يلتمس دواةً وكتفاً، فقال له أحد الصحابة: ارجع، فإنه يهجر5!!
إلى الرفيق الأعلى:
ثم ثقل صلى الله عليه وآله وسلم وحضره الموت وأمير المؤمنين عليه السلام حاضر عنده، فلما قرب خروج نفسه قال له صلى الله عليه وآله وسلم: "ضع رأسي يا علي في حجرك، فقد جاء أمر الله عز وجل فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري وصلّ عليّ أول الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى"6.
وهكذا فعل أمير المؤمنين عليه السلام، فأكبت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي، وهي تقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عينيه، وقال: "يا بنية، هذا قول عمك أبي طالب، لا تقوليه، ولكن قولي: ﴿وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ﴾7 فبكت طويلاً، فأومأ إليها بالدنوّ منه، فدنت فأسرّ إليها شيئاً، تهلل له وجهها.
ثم قضى صلى الله عليه وآله وسلم، ثم وجهه أمير المؤمنين عليه السلام وغمض عينيه ومدّ عليه إزاره، واشتغل بالنظر في أمره. وغسله عليه السلام والفضل بن العباس يناوله الماء، وتولّى تحنيطه وتكفينه ولما فرغ من غسله وتجهيزه تقدم فصلى عليه وحده لم يشركه معه أحد في الصلاة عليه.
وكان المسلمون في المسجد يخوضون فيمن يؤمّهم في الصلاة عليه، وأين يدفن؟! فخرج إليهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لهم: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمامنا حياً أو ميتاً"، فيدخل إليه فوج إثر فوج فيصلون عليه بغير إمام فينصرفون، ثم أردف عليه السلام قائلاً: "وإن الله تعالى لم يقبض نبياً في مكان إلا وقد ارتضاه لرمسه فيه، وإني دافنه في حجرته التي قبض فيها"، فسلم القوم لذلك ورضواونزل علي عليه السلام القبر، فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع خده على الأرض موجهاً إلى القبلة على يمينه، ثم وضع عليه اللبن وهال عليه التراب.
فسلام عليك يا رسول الله يوم ولدت، ويوم مت، ويوم تبعث حياً، اللهم ارزقنا شفاعته، وارفع درجته، وقرّب وسيلته، واحشرنا معه وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
1- الإرشاد للمفيد 1: 188.
2- الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة باتجاه الشام. (معجم البلدان: 128).
3- المصدر نفسه 1: 182.
4- صحيح البخاري 1: 172 ب46، وصحيح مسلم 1: 313 ح94 و95، وروى هذا الحديث أيضاً البيهقي في دلائل النبوة 7: 186.
5- الإرشاد 1: 184، والهلال العاري: في كتابه 2: 794، والنيشابوري في الإيضاح: 259، والطبري 3: 192-193 وبثلاثة طرق، وروي الحديث في البحار: 30/70/73 بخمس طرق عن البخاري وطريقين عن الجمع بين الصحيحين، وبثلاثة طرق عن صحيح مسلم، منها مسند عن جابر بن عبد الله الأنصاري وسائرها عن ابن عباس.
6- الإرشاد للمفيد 1: 186.
7- سورة آل عمران: الآية 144.